عنوان المجتمع المدني

مقاربة في المدارس المجتمعية

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [1]

1- المدرسة الفردية "الرأسمالية والليبرالية":

المدرسة الرأسمالية تذهب إلى أن المجتمع، الذي ينبغي أن يكون محور القيم والأحكام والقوانين، هو عبارة عن الآحاد، وعبارة عن الأفراد، فالقيمة كل القيمة للفرد، وهذه هي المدرسة الرأسمالية إجمالاً في جوهرها، وإن حظيت ببعض الرتوش والمكملات، فهي في جوهرها مدرسة فردية وتتماهى مع الليبرالية في إحدى قراءاتها ومدارسها وتصوراتها كون المجتمع في تقديرها عبارة عن آحاد وأفراد، والقوانين يجب أن تسخر بأجمعها لخدمتهم.

المدرسة الرأسمالية إجمالاً ترى أن القيمة كل القيمة للفرد، فيجب أن تطلق الحريّات للأفراد لكي تتفجر - كما يرون - طاقاتهم بشكل متكامل، ولكي يستطيع الفرد أن يخدم البلاد بشكل أفضل.

أما المدرسة الليبرالية فإن لها قراءات ومذاهب، كما لها نقاط مشتركة، فهنالك أسس مقبولة لليبرالية، نظير نظام فصل السلطات، حيث تبتني الدولة على فصل السلطات الثلاث، وهذا أمر مقبول، ولكن هنالك مدركات أُخرى لليبرالية، أو لإحدى المدارس الليبرالية، مثل وجوب فصل الدين عن قوانين الدولة، وهذا أمر مرفوض.

وإحدى هذه القراءات الليبرالية، هو ما ذهب إليه بعض الليبراليين والتحرريين، حيث رأوا أن الفرد، ينبغي أن يمنح الثقة المطلقة، وينبغي أن يُتسامح معه بشكل مطلق، وبشكل كامل أو شبه كامل فله كل الثقة وكل التسامح وكل الحرية، أو ما يكاد يقارب تلك (الكلّية!) وليست القضية بالضرورة مطلقة تماماً، لكن الأولوية عندهم تكون لهذا الفرد في ضمن هذه المدرسة على حساب المجتمع والمجموع كمجموع، فيجب - بناءً على هذا الأساس - على القوانين كلها، بالدرجة الأولى أن تراعي المصالح الفردية للأشخاص فالمدرستان الرأسمالية والليبرالية بما تعبّران عن الأفراد والأحاد والوحدات المستقلة تشتركان في أن المحور الأساس في طريقة تفكيرهما هي قضية الفرد بما هو فرد، وبالتأكيد فإن هذا الأساس ليس بإنساني ولا إيماني ولا عقلائي.

2- مدرسة المجموع "الشيوعية":

المدرسة الثانية هي مدرسة المجموع بما هو مجموع فالشيوعية تقول: إنَّ كافة الأفراد ينبغي أن يصهروا في بوتقة المجتمع الكبير، وأن تُذوّب الخصوصيات الفردية فلا بقاء للفرد ولا للملكية الفردية، وإنما الملكية للمجموع، ولا وجود للعائلة، ولا أخلاق، وإنما كل شيء ينحل ويتحلل ويذوب، وفق اللاءات الخمس الشيوعية المعروفة، وهي: لا لله، لا للعائلة، لا للأخلاق، لا للدين، لا لرأس المال.

إذن، فالمدرسة الثانية تلغي الخصوصيات الفردية، حتّى ملكية مثل الملابس، التي هي ملك شخصي تعده هذه المدرسة خطأ، وإنما هي ملك للجميع، وكذا الدار التي هي ملك لشخص ما، أو ذلك الجهد، وهذا الكتاب الذي هو لزيد، وذلك البستان الذي هو لعمر. هذا كله باطل في هذه المدرسة، وإنما كل شيء لكل أحد.

3- المدرسة الاسلامية ومعالم الرؤية الإسلامية للفرد والمجتمع:

ان الآية القرآنية الكريمة التي تقول (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يستفاد منها ومن مجموع الآيات الأخرى، ومن الروايات: أن الفرد بما هو فرد ليس هو المحور الأول والأخير للتشريع ولا المجتمع بما هو مجموع، وأن مصالح الجماعة متشابكة، ولا يصح أن ينظر للأفراد بما هم أفراد فقط، ولا أن ينظر للمجموع بما هو مجموع، وإنما القضية في الرؤيا الإسلامية ذات ثلاثة أضلاع.

الضلع الأول: هو آحاد الأفراد، فلهم قيمتهم ولهم حقوقهم ولهم احترامهم، ولذا قال الله سبحانه وتعالى (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فلكل فرد رأسماله.

والضلع الثاني: هو المجموع بما هو مجموع، وهذا الجمع المجموعي له اعتباره وله قيمته، وله أحكامه وقوانينه.

والضلع الثالث: وهو المجاميع التي هي في ظل هذا المجموع.

فهذه الدوائر الثلاث هي متسلسلة، الأفراد كآحاد، ثم المجاميع، ثم المجموع كمجموع، ويجمع ذلك كله: (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) و"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"

(الغابة) ومثال الأبعاد المجتمعية الثلاثة:

ولتوضيح ذلك بمثال، حتى يعرف معنى الآية الشريفة وعمق دلالاتها، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فإن الغابة تتكون من أشجار، لكن الأشجار المنفصلة لا تشكّل غابة، بل الآحاد المجتمعة المتجاورة هي التي تشكّل غابة، ولذلك فإننا في الغابة نلاحظ ثلاثة أمور.

الأمر الأول: هذه الشجرة وتلك الشجرة والشجرة الثالثة، وهكذا، ولكل شجرة شخصيتها ولها جذورها ولها أغصانها ولها أثمارها، وهناك الطيور التي تحط عليها وتغرد عليها، وبذلك يظهر لنا أنه لا يوجد ذوبان كلي لكل شجرة، بل إن الشجرة لها خصوصياتها، لها شأنها ولها شبابها وشيخوختها، ان صح التعبير، بمعنى نموها وازدهارها ثم ضمورها وانكسارها.

الأمر الثاني: هنالك أصناف من الأشجار، كأشجار جوز الهند مثلاً، وهنالك أشجار أخرى، مثل الأوكاليبتوس، ومجموعة أو سلسلة أخرى، كأشجار الرمان مثلاً، ومجاميع الأشجار على طوائف وألوان وأشكال متعددة.

الأمر الثالث: الغابة كمجموع من حيث المجموع. فإذن، هنالك ثلاثة أشياء:

الأشجار، المجاميع، والمجموع.

الإنسان وخلايا جسده في النموذج المجتمعي:

المثال الآخر وهو بدن الإنسان، الذي يتركب من الخلايا، إذ توجد في بدن الإنسان، عشرة ترليونات من الخلايا، بمعنى عشرة آلاف مليار خلية، كل خلية لها وضعها، إذ يمكن أن تكون نشطة، ويمكن أن تكون مريضة، أو أن تموت مثلاً، ثم إنَّ هذه الخلايا أيضاً مشكّلة في مجاميع، مثلاً سلسلة الأعصاب تتكّون من خلايا، ولكنها خلايا عصبية، ومجاميع العظام هي أيضاً خلاياً، لكنها خلايا العظام، ولها خصوصياتها الأخرى، والعضلات مجموعة أخرى، واللحوم مجموعة أخرى، والشحوم في البدن تكون مجموعة أخرى، وهكذا، ثم بعد ذلك كله نجد أن البدن بمجمله وبمجموعه له أحكام ومواصفات ومعادلات.

ثم إنه تختلف أحكام الفرد أحياناً عن أحكام المجموعة، وعن أحكام المجموع بما هو مجموع، فالمجتمع في الواقع يتشكل من هذه الأمور الثلاثة، وهي حقيقية واعتبارية أيضاً.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) وهذا يشمل أولاً:

(كل فرد فرد) بمعنى أن كل واحد هو مثل آحاد أشجار الغابة، فهذا المؤمن وذلك المؤمن، والمؤمن الآخر وهكذا، كل منهم هو وحدة قائمة بذاتها، كما يشمل أيضاً: (كل مجموعة مجموعة(، ذلك أن كل فرد وإن كان وحدة قائمة بذاتها إلا أنه مع ذلك له ارتباط وتشابك وتداخل مع سائر الوحدات، فهو ينضوي في ضمن مجاميع، فيشمل قوله تعالى (بَعْضُهُمْ) الأفراد والمجاميع، والكلمة (بعض)تشمل الفرد وتشمل المجموعة، بمعنى أنَّه على فرض أن زيداً حيث إنه بعض المؤمنين، فهو ولي لسائر المؤمنين، وهذه العائلة حيث إنها بعض المؤمنين فهي مسؤولة عن سائر العوائل وعن المؤمنين الآخرين، والعشيرة يصدق عليها بعض المؤمنين، وهذه العشيرة أيضاً مسؤولة عن سائر العشائر، وكذلك النقابة أو الحزب أو الاتحادات، وما أشبه ذلك من التجمعات.

رؤية الإسلام في المسؤولية الفردية والمجتمعية:

وعليه، فكلمة (بَعْضٍ) تنطبق على الفرد الواحد، كما تنطبق على المجموع، فالمسؤولية إذا متجهة للفرد بما هو فرد، فهو ولي ومسؤول، ومتجهة للمجموعة بما هي مجموعة، فهي أيضاً مسؤولة، مثل مجموعة الأطباء فهم مسؤولون، فالطبيب بما هو طبيب مسؤول، ولكن أحياناً هناك مسؤولية لا تتأتى من الطبيب الواحد، ويجب على مجموعة من الأطباء أن يتعاونوا لكي يستطيعوا القضاء على الوباء الفلاني، وكذا العلماء، فهذا العالم مسؤول، وذلك العالم مسؤول أيضاً.

كما يشمل ذلك (الجميع)؛ إذ توجد هناك بعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة، التي لا يمكن القضاء عليها إلا بتعاون جميع العلماء، والخطباء، وكل المؤلّفين والمفكرين، أو ما أشبه ذلك، ولا تستطيع مجموعة واحدة منهم القضاء عليه[2].

إذن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) هي جمع محلّى بأل، تفيد كل الآحاد، وكل المجاميع والجميع، فتأمّل.

هذا إضافة إلى إمكان الاستناد إلى كلمة (بَعْضُهُمْ) فإن (البعض)تنطبق على الواحد، كما تنطبق على المجموعات، هذه المجموعة وتلك المجموعة والمجموعة الأخرى، وهكذا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)

وتفصيل معنى الوليّ سيأتي لاحقاً إن شاء الله، لكنّه باختصار قد يقال: إنه يعني أن بعضهم يدبّر أمر بعض، ويدير أمر بعض ويقوم بأمر بعض، وفي مجمع البيان (بعضهم أنصار بعض) وفي تقريب القرآن إلى الأذهان (فإن كل واحد منهم ينصر صاحبه ويؤيده ويعينه؛ لأنهم من عنصر واحد وأصل واحد، وتجمعهم عقيدة واحدة)، و( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) بما سيأتي تفصيله لاحقاً.

"الأصل" الاجتماعي بين الفرد أو المجتمع والمبنى اللغوي لمفردته:

الاحتمالات الخمسة في أصالة الفرد أو المجتمع:

من التدبّر والتأمل في الآية القرآنية الشريفة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) نستكشف الاجابة عن السؤال الذي يطرح في علم الاجتماع، وهو: إنّ الفرد هو الأصل، أم المجتمع هو الأصل؟ لكن الاحتمالات في بادئ النظر هي أربعة، وليست احتمالين فقط. وهي:

الاحتمال الأول: أن يكون الأصل هو الفرد، والمجتمع هو الاستثناء، أو هو العنوان الثانوي، أو إنه يكون بالمرتبة اللاحقة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المجتمع هو الأصل، والفرد يأتي في المرتبة الثانية، أو في الدرجة اللاحقة في الأهمية، أو إن شئت فقل: الفرد هو الاستثناء.

الاحتمال الثالث: هو أن يكون الاثنان معاً هما الأصل، بمعنى أن الفرد والمجتمع معاً قد لوحظا بعنوان الأصل.

الاحتمال الرابع: وهو أن نقول بالتفصيل، وأن يكون الأمر مختلفاً باختلاف الموارد والصور، وهذا البحث مطروح إن في الشارع الحنيف أو عند العقلاء، لجهة بيان الأصل أن يكون الفرد أم المجتمع أم الاثنان معاً أو غير ذلك.

ولتوضيح أصل البحث، ولتطبيقه على المقام نبحث في الأسرة، إن كان الأب هو الأصل أم أن الأم هي الأصل، أم كلاهما معا الأصل، أم نقول بالتفصيل، تارة الأب هو الأصل، وتارة الأم هي الأصل باختلاف الموارد، كمثل تربية الأولاد، أو التأمين المعاشي، أو ما أشبه ذلك، وكذلك في البحث بين الزوج والزوجة، وهل الزوج هو الأصل أم الزوجة هي الأصل أم الاثنان معاً، أم يختلف ذلك باختلاف الموارد؟

ففي الإدارة مثلاً: يكون الزوج هو الأصل، وفي مسألة أخرى نفرضها في التربية مثلاً، فالزوجة تكون هي الأصل، وهذا الرأي ليس لإبداء الحكم الشرعي.

والغريب أن يرى البعض رأياً خامساً، وهو أن الدولة والحكومة هي الأصل، بل إن بعض الحكام يرى نفسه هو الأصل، أو يرى أسرته هي الأصل، فأحد هؤلاء الحكام المخلوعين أخيراً[3] ينقل عنه، عندما كان بعض أعوانه أو وزرائه يقولون له: إن القانون لا يسمح لنا بأن نتجاوز على حقوق الناس وأن نصادر الحريات إلى هذه الدرجة - بعد أن كان قد تجاوز القانون إلى أبعد الحدود حتى إن عملاءه كانوا يستثقلون ذلك - فكان يجيب يكفي[4] الكلام عن القانون، فإن أولادي وأصهاري هم فوق القانون! وانتهى الأمر، فهذا هو القانون الأول والأخير لديهم.. نعم، بعض الحكام، بل أكثرهم يرى أنه هو الأصل في تصريحه إن تجرأ، أو في عمله إن لم يتجرأ بالتصريح، كمثل فرعون، وفي الواقع فإنه لا يرى المصلحة إلا مصلحته هو.

الاحتمالات الأربعة في معنى (الأصل):

وهذا البحث يتوقف على بيان مقدمات عديدة في مقدمتها تبيان المراد بـ(الأصل)، إذ عندما نتساءل: هل (الأصل) هو الفرد أم المجتمع أم الفرد والمجتمع معاً، أم أنه في بعض الموارد يكون الأصل هو الفرد، وفي موارد أخرى يكون الأصل هو المجتمع، فلابد أن نحدد ماذا نعني بكلمة "الأصل".

إن الإحتمالات في كلمة (الأصل) هي بدورها عديدة:

الاحتمال الأول: أن يراد بالأصل مورده في باب التزاحم، فلو كانت هنالك مصلحة ومصلحة أخرى مزاحمة لها، فنبحث أية مصلحة هي (الأصل)أي هي (المقدّمة) وفي مثالنا السابق، لو تزاحمت المصلحتان، بمعنى مصلحة الأب مع مصلحة الأم، أو مصلحة الزوج مع مصلحة الزوجة، أو الأب مع الطفل، فهذا مثال مصغّر في العائلة لتقريب الذهن إن كان الأصل هو الفرد أم الأصل هو المجتمع.

عليه، فإن الإحتمال الأول في كلمة الأصل هو أن يراد بها في باب التزاحم، فلو تزاحمت مصلحة المجتمع - بما هو مجتمع - مع مصلحة الفرد - بما هو فرد - فأية مصلحة هي المقدمة؟ أم ينبغي أن نلاحظ المجموع من المصلحتين، فنعمل – مثلاً - بقاعدة العدل والإنصاف.

والاحتمال الثاني: أن يراد بها (الأصل لدى الشك) كما هو المراد في الأصول العملية، ففي باب الاستصحاب مثلاً عندما نقول: إن الأصل هو الاستصحاب فيعني أنه لو شككنا فإننا نستصحب الحالة السابقة، أو قلنا الأصل هو الاشتغال، فإن المراد انه لو كان هناك علم إجمالي بالتكليف وكان شك بالمكلف به، وكان يمكن الجمع بينهما فالأصل الاشتغال أو الاحتياط، وإن دار الأمر بين المتباينين فالأصل هو التخيير، والصورة الرابعة ما لو شككنا في أصل التكليف فالأصل البراءة.

فعليه، أن الأصل تارة يقصد به الأصل لدى الشك، فعندما نبحث في علم الاجتماع عن إن الأصل هو الفرد أو المجتمع نقصد بكلمة الأصل - حسب الاحتمال الأول - ما كان في باب التزاحم، وحسب الاحتمال الثاني يقصد به الأصل لدى الشك، فلو شككنا في مفاد الأدلة فعندئذ الأصل أن نقدّم مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد أو العكس أو حسب الموضوع والحالة، أو غير ذلك.

الاحتمال الثالث: ما كان في باب العموم والخصوص، بمعنى أن نريد بالأصل معنى القاعدة العامة لبيان ما هو العام وما هو التخصيص، وما إن كانت العمومات قد انصبت على الأفراد أولاً وبالذات، والمجتمع يحتاج إلى أدلة تخصيصية أم أن العمومات والإطلاقات الشرعية أو العقلائية تنصب في المجتمع أولاً، ثم تستثنى منها الأحكام والتشريعات للأفراد.

الاحتمال الرابع: أن يراد بالأصل معنى الأساس والجذر، فمثلاً نقول: إن أصل الشجرة هو جذورها ثم جذعها في مقابل الأغصان والأوراق والأثمار، وما أشبه ذلك، ففي مبحث إن الأصل هو الفرد أم المجتمع يراد به ما هو الأساس.

ومن الواضح إن الاحتمال الرابع يشير إلى البعد التكويني للموضوع، بينما الاحتمالات الثلاثة كانت تتحدد في الإطار الحقوقي أو في الإطار التشريعي.

وهذا البحث في الواقع من البحوث المهمة والمفتاحية، والتي ترتبط بسياسة الإسلام واجتماعه واقتصاده، كما ترتبط بسياسة واقتصاد واجتماع أي دين آخر أو أي قوم، وإن لم يلتزموا أو يدينوا بدين ما.

ولتحقيق القول في ذلك نحتاج إلى بحوث تخصصية لسنا الآن في مقام ونطاق البحث عنها، وإنما نشير لها فقط، وستنصرف البحوث القادمة إلى مقدمة أخرى في هذا السياق في معرض الإجابة عن هذا التساؤل، وعلى أي تقدير، سواء أقلنا: إنَّ الفرد هو الأصل أم أنّ المجتمع هو الأصل أم كلاهما أم التفصيل، فإنه محطة للأحكام والتشريعات المختلفة.

فأي قول من هذه الأقوال ارتضيناه، وعلى أي تقدير، فإن الفرد له مسؤولية - بلا شك - باتجاه المجتمع، والمجتمع له مسؤولية تجاه الفرد، سواء أكان هذا هو الأصل وذاك هو الفرع أم العكس، وفي مثالنا المصغر: سواء أقلنا إن الأب هو الأصل، والأم هي الفرع أم بالعكس.

وعلى أي تقدير، فلا شك إن هنالك ضوابط وحدوداً، سواء أقلنا بالمعنى التكويني، وهو إن الأصل هو الجذع والفروع هي الأغصان، أم قلنا بالعكس، أو أي شيء آخر، فجميعها مهمة وضرورية ولازمة وإن كانت على درجات، وللتقريب إلى الذهن نقول: إنّ هنالك علاقة متقابلة بين الطرفين وهنالك مسؤولية.

التحقيق في إن (الأصالة) للفرد أو للمجتمع:

من الضروري التدبر في الآية القرآنية الكريمة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وفي سائر الآيات والأحاديث الشريفة، مثل ( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)، و(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم)، و(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، و"أن هذه أمتكم أمة وسطاً"، وكذلك الروايات الشريفة مثل: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، و"الناس سواسية كأسنان المشط" أو غير ذلك، لجهة الاستكشاف والاستدلال من هذه الأدلة ونظائرها، على أن الأصل لدى الشريعة الإسلامية هو الفرد، أم أن الأصل هو المجتمع، أم كلاهما أصل، بمعنى المجموع من حيث المجموع من مصالح الفرد ومصالح المجتمع الملحوظة والمراعاة في التشريعات، وما أشبه ذلك، أم أن الأمر يختلف باختلاف الموارد والموضوعات والعناوين.

وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا البحث يحتاج إلى بسط مقال، وربما يحتاج إلى العشرات من البحوث والدروس والمحاضرات، ولكن سنكتفي ههنا برؤوس الأقلام، وقد سبقت الإشارة إلى النقطة الأولى وهي (الأصل)، وضرورة تحديد المراد منه ههنا: فهل المراد الأصل في باب التزاحم، أم الأصل في باب التعارض، أم الأصل لدى الشك، أم الأصل بمعنى الأساس؟

ونضيف هنا: إن الظاهر من الأصل بالمعنى الأول، هو المراد ههنا، وقد يتبع ذلك في فلسفته الأصل بالمعنى الرابع. هذا ثبوتاً، وأما إثباتاً فكلا المعنيين، الثاني والثالث، قد يكونان مرادين، فالثالث لو فُقِد الدليل، والثاني مع وجوده، ولكن في بعض الصور، مما نترك تحقيقه إلى علم الفقه.

تشريعات مصبّها الفرد وأخرى مصبها المجتمع:

النقطة الثانية: هي أنه عندما نتصفح تشريعات الدين الإسلامي الحنيف، نجد أن بعض الأحكام والقوانين، سواء الشخصية أم الاجتماعية، وسواء الحقوقية أم الجزائية أم الاقتصادية أم السياسية أم غيرها، نجد أن بعض هذه القوانين مصبّها الفرد، وقد لوحظت فيها مصلحة الفرد بالدرجة الأولى، وإن تموّجت تلك المصالح على المجتمع أيضاً.

كما قد نجد العكس أحيانا، وأن تشريعاتٍ مصبُّها المجتمع، وقد لوحظ فيها المجتمع، بما هو مجتمع، والمجموع بما هو مجموع، أو قطاعات واسعة منه على الأقل، وإن كان ذلك التشريع ينعكس بفوائده – أيضاً - على الأفراد.

الصلاة والصوم و... مصبّها الفرد:

فمثلاً "الصلاة" تشريع مصبه الفرد، وإن كان الإنسان عندما تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فان ذلك ينعكس بإيجابياته على المجتمع.

وكذا "الصوم" فإنه تكليف موجه للفرد، وإن كان ينعكس – أيضاً – على المجتمع، لأنه يروض النفس على السيطرة على الشهوات، ويذكر الإنسان بالفقراء والمساكين، وإلى غير ذلك من الفوائد.

وكذلك (فلكم رؤوس أموالكم) فهذا التشريع – أيضاً - مصبه الأولي هو الفرد الذي له رأس ماله، وله ما جنت يداه، أو ما كسب بتفكيره، أو ما أشبه ذلك، فبعض التشريعات يكون مصبها الأولي هو الفرد، وإن كانت فوائدها الاجتماعية كثيرة جداً. حتّى تكاد أحياناً تساوي أو تتغلب على الفوائد الفردية، كما في (الحج) على احتمال.

الخمس والزكاة والأنفال مصبّها المجتمع:

لكن هنالك سلسلة من التشريعات مصبها الأولي هو المجتمع، مثل "الخمس" مما ربحه أو غنمه الشخص من المكاسب أو غيرها، فحق المجتمع هنا موجود في الخمس، فهذا المال الذي بذل فيه الفرد جهداً كبيراً يتعلق به حق المجتمع، وهو (الخمس) قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فإن كل شيء لله، لكن ذكر اسمه القدوس هو لتشريف مقام النبي (صلى الله عليه وآله).

وكذلك "الزكاة" التي روعي فيها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وسائر الأصناف، وهذه أمثلة معهودة معروفة لعامة الناس.

وهنالك نماذج غير معهودة عند عامة الناس، وإن كانت لدى العلماء الذي معروفة، مثل "الأنفال" الذي مصبه الأولي هو المجتمع بإجازة من الرسول (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)، وهي ليست للأفراد، بل لله وللرسول، ثم إنه بحكمته ينفقها في مصالح المسلمين، لكن الرسول (صلى الله عليه وآله)، يقول: "الأرض لله ولرسوله، ثم إنها منّي لكم أيها المسلمون".

وتدل الآية الشريفة من سورة الأنفال على الأصل الأولي للأنفال، (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فالرسول (صلى الله عليه وآله) ينفقها على عامة الناس، وليس لآحاد الناس كآحاد، وإنما ترجع إلى بيت المال ثم تعود للمجتمع من جديد.

وللأنفال مفردات كثيرة، فالأنهار من الأنفال، وكذا سيف البحار من الأنفال، والآجام - وهي جمع أجمة - هي من الأنفال، وبطون الوديان من الأنفال، ورؤوس الجبال من الأنفال، فالأنفال كثيرة، وهي تشكل ثروات كثيرة جداً، لكن الدول في عالم اليوم تقول هذه كلها لي، وهذا خطأ فاحش؛ لأنها كلها في الواقع ثروة للمجتمع وليست للدولة، فالله سبحانه وتعالى يقول: هي لي ثم للرسول، ثم إن الرسول (صلى الله عليه وآله) أباحها للمسلمين.

وكذلك" الفيء"، وآية الفيء صريحة الدلالة ولا نحتاج إلى ضم رواية إليها، ففي سورة الحشر يقول الله سبحانه وتعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، ومبدئياً أفاء بمعنى أرجع، أي للرسول، لأن كل شيء هو للرسول تكويناً بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لكن هذا الفيء هو إعادة تشريعية ظاهرية، فتشريع الفيء هو للمجتمع بلطف من الله ورسوله، فتأمل[5].

عليه، فإن التشريعات تختلف، فبعضها مصبها الفرد، وبعضها مصبها المجتمع، مع إن ما هو للمجتمع ينفع الأفراد، وما هو للأفراد ينفع المجتمع طبيعياً.

النقطة الثالثة: ذكرنا أن الاحتمالات في (الأصل) عديدة، فهل الأصل هو الفرد أو المجتمع، أو كلاهما معاً، أو ذلك يختلف باختلاف الموارد؟ بمعنى أن في بعض الموارد يكون الأصل هو المجتمع، كمثل الخمس والزكاة، ومثل الفيء والأنفال، يعني قد لوحظت فيه بالأساس مصالح المجتمع، ونضيف أيضاً مثل الحدود والتعزيرات، التي لوحظت فيها – أيضاً - مصلحة المجتمع بالدرجة الأساس.

فلسفة القصاص:

وبذلك يظهر وجه جديد من وجوه الإجابة عن بعض جهلة الغرب والمسلمين الذين اعترضوا على القصاص، كمثل اعتراضهم على قتل القاتل؛ لأنهم يعتبرون أن الأصل المطلق هو الفرد، فإذا قتل هذا الفرد فرداً يتساءلون لماذا تقتلونه به فتصير خسارتان، وفق منطقهم؟ لكن القرآن الكريم يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) فالشخص الذي يمتلك عقلاً ولبّاً يفهم أن القصاص من القاتل - في الواقع - هو الذي يحافظ على المجتمع؛ إذ من الصحيح إننا نخسر بذلك فرداً جديداً، لكنه جرثومة وميكروب وسرطان، والسرطان ينبغي أن يقضى عليه؛ لأن ذلك يحصن المجتمع من المزيد من الجرائم.

وذلك لوضوح إنه إذا علم المجرم بأنه عندما يقتل الناس فلن يُقتص منه، فإن ذلك سيفتح الباب أمام كل إرهابي، وكل سفاك وكل مستبد، ومن الطبيعي أن القتل ستزداد وتيرته بشكل متصاعد، على العكس ما لو عرف القاتل أنه سوف يقتل، فإن ذلك يشكل حماية للمجتمع ورادعاً قوياً عن الجريمة، وبتعبير آخر كمّي، لو لم يشرّع قتل القاتل فسنرى إنه بدلاً من أن تكون إحصائية القَتَلة عمداً في البلد ألفاً في السنة، سيصيرون عشرين ألف مثلاً، لكن إذا شرّع قتل القاتل فسيتقلص عددهم إلى ألف مثلاً.

ومن الصحيح أن بعض القاتلين قد يعفو عنهم الولي، وبعضهم قد يكتفي منهم الولي بالدية، لكن المهم هو (الرادع) لأن الأولياء مخيرون بين أن يقتلوه قصاصاً، لو كان عمداً، وبين المنّ عليه والعفو عنه، وبين أخذ الدية، وعلى ذلك فإن هؤلاء الألف إذا قتلوا ألفاً سيقتل منهم مثلاً خمسمائة، فمجموع القتلى قد أضيف لهم خمسمائة، أما إذا لم يشرّع القصاص فسيكون المقتولون عشرين ألفاً باستنثناء الخمسمائة قاتل، وهذا يعني إنه لوحظ في القصاص مصلحة المجتمع، والأمر كذلك في مطلق (الحدود والتعزيرات) تماماً.

ومن الضروري التنبيه على إن للحدود ضوابط صعبة جداً، وقد أشار السيد الوالد (يرحمه الله) في (الفقه الاقتصاد) و(الفقه الحدود) و(الفقه القضاء) وغيرها إليها، منها: أن يكون الاقتصاد الإسلامي مطبقاً، وأن يكون النظام بشكل عام إسلامياً؛ لأن (الحدود) مفردة وفي ضمن منظومة متكاملة، وعلى هذا فإن الدول المسمّاة بالإسلامية التي تترك قوانين الإسلام في السياسية والاقتصاد[6] وتتمسك بالحدود والتعزيرات فقط، هي ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض آخر، ولهذا بحث مفصل نتركه لمحله.

الأمر بالمعروف مصبّه المجتمع:

وهناك مثال هام آخر لوحظ في تشريعه (المجتمع) أولاً وبالذات، وهو (تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضران - عادة - بالشخص، لما فيه من المشقة أولاً، ولأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيكرهه الآخرون؛ لأن الآخرين يجدونه سداً بينهم وبين ملذاتهم وحاجزاً يقف أمام طغيانهم، فيكرهونه طبعاً، وكمثال مبسط تصوروا شخصاً يغتاب الآخرين، فلو نهاه أحدهم عن ذلك فإنه سوف ينزعج ويتخذ موقفاً منه، مع أن ذلك الشخص يحاول أن يمنعه من أن يسقط في فخّ الشيطان وحفر النيران، إذن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما لمصلحة المجتمع، في الواقع، وإن كانا في ضرر الشخص ظاهرياً. نعم، في النظرة الأعمق نجد النفع يرتد عليه كشخص أيضاً نتيجة كون المجتمع سليماً، فإنه عندما يكون الجو نظيفاً ينتفع الكل، وإذا تلوث الجو يكون الأمر بالعكس.

التقية لها حالتان:

وعلى أي تقدير، وكما سبق فإن التشريعات تختلف باختلاف الموارد، بل إننا قد نجد عنواناً مثل (التقيّة) تارة لوحظت فيها مصلحة الشخص، فله أن يتقي، ولكن إذا وصلت المرحلة إلى الدماء فلا تقية فيها، فقد لوحظت فيها مصلحة الآخرين، أو مصلحة المجتمع، والبحث في هذا الحقل بمفرداته ومناقشاتها وبشعبه المختلفة مترامي الأطراف، نقتصر منه على هذا المقدار.

إذن، عندما نسأل ونتساءل: هل الأصل هو الفرد أم المجتمع، أم كلاهما أم بالتفصيل؟ في الواقع يكون جوابنا هو الرابع، أي التفصيل، بمعنى إنه أحياناً تلاحظ مصلحة الفرد أولاً، ثم مصلحة المجتمع، وأحياناً تلاحظ مصلحة المجتمع أولاً ثم مصلحة الفرد، ولكن هل هنالك تشريع معين لوحظت فيه المصلحتان على نحو واحد وبشكل واحد وكانتا سيان، وهو القول الثالث؟ هذا ما لم نعثر عليه حسب الملاحظة المبدئية.

وعوداً إلى الآية الكريمة ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) من هذه الآية هل يصح أن نستنبط إنه قد روعي الجانبان، وقد لوحظت المصلحتان وبأية درجة؟ هذا ما لعلنا سنتطرق له لاحقاً. وعلى أي تقدير سواء أقلنا: إن الفرد هو الأصل أم هو المجتمع أم غير ذلك، فإن هنالك ضوابط وهنالك مسؤولية مشتركة، وهذا ما لعلنا نتطرق له في المستقبل، إن شاء الله.

مقاربة التداعيات في مقياس الفرد ومحوريته:

إذا كان المقياس هو الفرد فالنتيجة تكون بأن مصالح الفرد لو اصطدمت بمصالح المجموع فهي المقدمة، بل قبل ذلك وفي مرتبة سابقة، هذا الفرد سيصبح هو المحور، بل سوف لا تكون عليه مسؤولية ذات شأن تجاه المجموع، وسيكون الأمر مثل ذلك التاجر المعروف الذي يعيش في بلد صغير جداً من البلاد العربية، قسم كبير من الناس فيه يعيشون في بيوت الصفيح، وكان قد صنع قصراً فخماً لنفسه، والغريبة أن بعض أبواب القصر قد جعلها من الذهب الخالص، في الوقت الذي يعيش فيه كثير من الناس في نفس ذاك البلد في الفقر المدقع، وهو بلد صغير نفوسه لا تتعدى الملايين، لكن عشرات الألوف منهم، وربما مئات الألوف يعيشون في بيوت الصفيح، وما أشبه ذلك، في حين أن باب قصره مصنوع من الذهب الخالص، بل الأغرب من ذلك، فإن أرضية الحمّام قد صنعها من الذهب الخالص.

ماذا يعني ذلك؟ إنه لا يعني إلّا محورية الفرد، وإنه هو المحور الأول والأخير.

والغريب أننا نجد في مستشفيات الكثير من الدول قانوناً مصدره المحورية المطلقة للفرد، وحسب هذا القانون فإن المريض عندما يأتي إلى المستشفى لا تجرى له العملية الجراحية إلا بعد أن يعطي المبلغ، أو يعطي الصك الذي يعادل مبلغ تلك العملية، حيث إن الإدارة في المستشفيات قد أصدرت قراراً بأن لا يقبل المريض فيها إلا بعد أن يعطي المبلغ المساوي لكلفة العمليات الجراحية، وما أشبه ذلك، فإذا لم يكن يمتلك المبلغ فإنه سيطرد وليكن ما يكون!

ومن القضايا التي تختزن (عبرة متجسدة) تلك التي حدثت في إحدى البلاد الإسلامية أخيراً، حيث إن طبيباً معروفاً قام ببناء مستشفى خاص على أحدث ما يكون، واتبع فيها هذا القانون اللا إنساني، حيث المحورية المطلقة هي للمنافع الشخصية، ولا يهم بعد ذلك ماذا يحل بالآخرين، وفي أحد الأيام كان هذا الطبيب في مكان آخر خارج المستشفى، وإذا بسيارة تدهس طفلاً بقرب هذه المستشفى، فينقل الطفل إلى المستشفى، وكان بحاجة إلى عملية عاجلة لإنقاذ حياته، فيمتنع الأطباء عن علاجه، اتباعاً للقانون الصادر من مدير المستشفى، القاضي بدفع الأجر مقدماً، ويبدو أن الذين قاموا بنقل الطفل الجريح للمستشفى لم يكونوا من أقربائه ولعلهم لم يكونوا يملكون هذا المال، فطلبوا تأجيل الدفع لحين معرفة والدي الطفل وحضورهما، لكن الإدارة والأطباء تغاضوا عن علاجه، وتباطأوا بحسب القانون إلى أن يستلموا المبلغ إلى أن مات الطفل أمام أعينهم.

وعندما جاء الطبيب المدير إلى المستشفى اكتشف أن الطفل المتوفى هو ولده، فغضب أشد الغضب لذلك، وعندما عنّفهم بشدة لعدم معالجته أجابوه بأنه هو من وضع القانون، ومن أدرانا بأنه ابنك؟ فذاق العذاب والألم وشرب من نفس الكأس التي سقى بها الآخرين... ولكن كم من الناس قبل ذلك قد ماتوا، وكم من الناس بعد ذلك سيموتون؟ إن الرأسمالي هذا هو دينه، والأناني هذا هو مذهبه، والمحتكر هذا هو منهجه، لا يفكر بصالح المجموع، بل يفكر في نفسه ليس إلا، ولكن ستدور عليه دائرة السوء يوماً ما.

أما الآية الشريفة فتقول: (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فالفرد له رأس ماله كفرد، وله قيمة، وله ملكية فردية، ولكن في إطار آخر أوسع، بمعنى أن هناك تشابكاً وتكاملاً بين المصالح الشخصية والمصالح النوعية العامة، (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ): (لا تظلم) بأن تجحف، بأن تحتكر، بأن ترابي، وبأن تمنع زكاة مالك وخمس أرباح مكاسبك، و(لا تُظلم) بأن يأخذوا منك أكثر من الذي ينبغي أن يؤخذ منك، ذلك أن الضريبة الشرعية هي الخمس والزكاة فقط على المسلمين، أو الجزية والخراج فقط على غير المسلمين، وليس أكثر من ذلك، هذا حق المجموع بهذا المقدار، وحقك بذلك القدر، وكل شيء عنده بميزان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي

والكتاب سلسلة محاضرات القاها في الحوزة العلمية الزينبية

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

.......................................

[1] سورة التوبة، الآية 71.

[2] ويظهر ذلك بوضوح أكثر في حالة التصدي للغزو الخارجي أو للإرهاب الداخلي هذه الأيام في بعض الدول.

[3] وهو الرئيس التونسي.

[4] كان يقول حسب لهجتهم: ييزي!

[5] في كلا مثالي الأنفال والفيء تأمل.

[6] مثل: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) و(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) و(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) و(خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) و(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).. إلى غير ذلك.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 30/آب/2014 - 3/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م