خطاب التخوين والعمالة وأزمة الشرعية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تاريخ المجتمعات البشرية جميعها دون استثناء، كتبت على إيقاع أزمات الشرعية.. منها ما انتهت الى نوع من ترسيخ الشرعية بعد صراعات طويلة، ومنها ما استمرت تعيد انتاج نفس الأزمة، وهي فقدان الشرعية.

التاريخ المعاصر على سبيل المثال لأغلب البلدان العربية، وحتى واقعه الحالي، يشي بهذه الازمة المستفحلة من الشرعية، شرعية النظم السياسية والحاكمة، والتي في معظمها قامت على اعقاب انهيار انظمة سابقة، عن طريق الانقلابات العسكرية، او ثورات جماهيرية، وكان مايبرز دائما بعد تغيير الانظمة شرعية وجودها الجديد محل شرعية الانظمة التي انهارت.

بقاء الشرعيات الجديدة، مرهون بنجاحاتها. (فاذا هي زرعت الخيبة، راحت تتلاشى بسرعة كبيرة او صغيرة، دون ان ينتبه المنتمون اليها لهذا الامر دائما). كما يشير الى ذلك امين معلوف في كتابه (اختلال العالم).

ما هي الشرعية؟

(هي ما يتيح للشعوب وللافراد ان يقبلوا، دون مبالغة في الاكراه، سلطة مؤسسة ما، يجسدها اشخاص، وتكون حاملة لقيم مشتركة).

او هي (إضفاء الصفة القانونية على شيء ما) وتضفي الشرعية طابعاً ملزماً على أي أمر أو توجيه و من ثم تحول القوة إلى سلطة، وتختلف الشرعية عن المشروعية في أن الأخيرة لا تكفل بالضرورة تمتع الحكومة بالاحترام أو اعتراف المواطنين بواجب الطاعة. فالمشروعية بهذا المعنى مشتقة من التوافق مع القانون أو اتباعه ، أما الشرعية فهي الأصل الذي يفترض أن يستند إليه القانون (و من ثم المشروعية).

التصور المثالي يفترض أن تكون القوانين (و المشروعية) تتمتع في الآن ذاته بالشرعية ، إلا أن الواقع يعرف العديد من الأمثلة المخالفة لذلك، حيث تنشأ فجوات بين الشرعية و المشروعية، يكون من أبرز مظاهرها وجود قوانين لا تستند إلى الأساس الرضائي المتفق عليه ، أو حتى تنتهك هذا الأساس و تتعارض معه.

ارتبطت قضية (الشرعية) بواحد من أقدم الجدالات السياسية وأكثرها أهمية وهو الجدل حول مشكلة " الالتزام السياسي" ففي ثنايا تحليلهم لمدى وجوب احترام الدولة وطاعة قوانينها على المواطنين، طرح منظرو العقد الاجتماعي مثل هوبز ولوك تساؤلات حول توقيت وأسس وكيفية ممارسة الحكومة للسلطة الشرعية في المجتمع. ويلاحظ أن الدلالات السياسية الحديثة لا تركز على مسألة لماذا ينبغي على الناس أن يطيعوا الدولة على نحو مجرد، بل على قضية سبب طاعتهم لدولة معينة أو نظام معين للحكم.

وكان ماكس فيبر قد قدم الإسهام الأساسي في فهم الشرعية كظاهرة اجتماعية حيث حدد ثلاثة أنواع من الشرعية.

السياسية هي: السلطة التقليدية (القائمة على التاريخ والعادات) والسلطة الكاريزمية (القائمة على قوة الشخصية)، والسلطة الرئيسية القانونية (المستندة إلى إطار من القواعد الرسمية القانونية).

ووفقاً لفيبر، فإن المجتمعات الحديثة تتجه بشكل متزايد إلى ممارسة السلطة الرشيدة القانونية، وتبنى الشرعية النابعة من احترام القواعد الرسمية القانونية.

بعض الشرعيات اكثر استقرارا من غيرها، لكن ليس من بينها واحدة غير قابلة للتبدل، ويمكن لصاحبها ان يستزيد منها او يخسر، تبعا لحنكته او للظروف.

من اجل تثبيت وانتزاع الشرعية المطلوبة لتلك النظرية، لا مانع من خلق بيئة سياسية مستبدة وشمولية، وجعلها سدا منيعا امام كل المعارضات لتلك النظرية وتلك الشرعية المطلوبة والمفتقدة.

كثيرا ما تلجأ الشموليات السياسية الى المصادرة والاقصاء والالغاء، لأصوات المعارضين لها، عبر شراء تلك الاصوات او اسكاتها بالمعنى المادي وهو تصفيتها جسديا، او عبر التهديد بذلك، ومنهم (اي المعارضين) من يختار الانزواء بعيدا عن الحراك السياسي والاجتماعي في مجتمعاتهم او يضطر الى الهجرة خارجها، ومنهم من تفرض عليه الاقامة الجبرية في منزله ومراقبته والاخرين الذين يتصلون به.

وقد لا تكتفي تلك السلطات، وهي اذ ترمي الى نشر شموليتها الى كافة مساحات المجتمع وتغطيته، فهي كثيرا ما تلجأ الى سلاح التشهير والتسقيط للمعارضين عبر خطابات التخوين والعمالة للشيطان الاكبر او الشياطين الاصغر منه، كبريطانيا مثلا.

خطاب التخوين والعمالة للأجنبي، يستهدف من ضمن ما يستهدف، نزع (شرعية) تلك الاصوات المعارضة (مراجع دين – كتاب – مثقفين – سياسيين) وتحويل شرعياتهم الحقيقية الى رصيد لها، تشعر معه بالاطمئنان الى وجودها والى شرعيتها المصطنعة، لكن اطمئنان مثل هذا يقوم على تخويف او خوف الاخرين بصورة مستمرة، يخلق من هذا الاصطناع ازمة شرعية تتبدى في المزيد من الاستبداد والقهر ضد المعارضين، ومزيدا من الاذلال والهوان للمدافعين عن تلك الشمولية البائسة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/آب/2014 - 24/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م