علماء الدين.. صمام أمان

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما يبحث في موضوع استقرار الدول، تطرح عدة عوامل؛ مثل الأمن والاقتصاد والديمقراطية، لما لهذه العوامل من مدخلية في شؤون حياة الشعوب والأمم، وقدرتها على توفير الاستقرار والطمأنينة والحؤول دون حصول الاضطرابات والفوضى. والسؤال الذي يثور امامنا: ما هو مصدر الامن والاقتصاد والديمقراطية وغيرها من عوامل الاستقرار المنشود؟.

فهل يأتي الأمن وفرص العمل والانتاج والحرية وغيرها من قبل حزب سياسي؟ أم على يد قائد عسكري يقود انقلاباً ثم يرتدي بدلة مدنية ليتربع على قمة السلطة؟ ام من قبل تيار سياسي؟.

لو راجعنا تجربة النظام السياسي في العراق، منذ اول حكومة تشكلت على يد البريطانيين عام 1920 و برئاسة "طالب النقيب"، نجد ان نقطة انحراف هذا النظام كان في ابتعاده عن علماء الدين، ثم ممارسة سياسة عدائية وقمعية، دون ان تصدر من العلماء والحوزة العلمية ما يسيئ الى الدولة الحديثة النشوء، او الى الوضع العام في البلاد. ونتحاشى في هذا المقال الحديث عن الدور الريادي للعلماء في إجبار البريطانيين على القبول بحاكم عربي مسلم يحكم العراق. إنما المهم هنا، تسليط الضوء على المغالطة التاريخية التي لم يتخلّ عنها الحكام طيلة العقود الماضية في إيهام الناس بأن علماء الدين والحوزة العلمية لاشأن لها باستقرار البلاد، ولا دخل لها بالسياسة بالمرة. إنما حدودها في اصدار الاحكام الدينية والتبليغ للاخلاق والآداب.

والمثير حقاً؛ ان جميع محاولات الحكام السابقون باءت بالفشل فلم يتمكنوا من إبعاد الدور الريادي والمحوري لعلماء الدين عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان ثمن الفشل يدفعه الشعب العراقي من دماء ابنائه وثرواته وقدراته والاصعب من ذلك، خسارة مراحل من التقدم والتطور، واستبدالها بمراحل سحيقة من التخلف والحرمان، كما لو ان لسان حالهم، أننا لن نتنازل لعالم الدين، إلا ان تأتي قوة اكبر منّا وتقلعنا عن كرسي الحكم عندئذ نكون امام الامر الواقع..! كما حصل مع "صدام".

من وحي التجارب الماضية، هنالك علائم عديدة على فشل تلكم المحاولات يمكن الاشارة اليها، بيد أننا نشير الى اثنين: الاولى تتعلق بشخص الحاكم، والثانية تتعلق بالانطباعات الخارجية له..

بالنسبة للحالة الاولى: فان العلماء يتميزون عن الآخرين بصفاتهم الاخلاقية وفضائلهم ونمط حياتهم. فيجد الناس فيهم – على الأغلب- الزهد والتواضع وحب الخير للآخرين، فهم يعيشون بينهم، يشاركونهم احزانهم وافراحهم، ولهم حضور مكثف في الاوساط العامة، مثل الاسواق والمدارس وبين الموظفين والمثقفين والادباء، وبكلمة فان الناس يحبون الشخصية القيادية التي لا تعلو وتتكبر عليهم، بل تكون الشجرة الوارفة التي تمتد باغصانها الخضراء على مساحات واسعة من  الارض.

وهنالك أمر هام آخر، وهو ان الناس يرون في العلماء الزهد في امور الدنيا، بينما يجدون اللهاث وراء الكسب الوافر والسريع على قدم وساق، وايضاً التسابق نحو المناصب والامتيازات الحكومية، بشكل جنوني..! لذا عندما يعلو صوت  الفقراء والمعدمين في بيوت الصفيح والايتام والارامل وغيرهم من الشرائح الضعيفة في المجتمع، فانها تتوجه نحو المسؤولين الحكوميين المتخمين، ويحملونهم مسؤولية المعاناة والمحن التي يعيشونها. وليس الى بيوت المراجع وعلماء الدين، مع انهم يجدوا فيهم الاهلية في تحمّل مسؤولية رفع بعض العبء عن كاهل الفقراء قدر المستطاع.

من هنا؛ وجدنا كيف ان اول حجرة سقطت من صنم الديكتاتورية الصدامية، عندما وجه النظام البائد حرابه ضد الحوزة العلمية وعلماء الدين، لانهم موضع الثقة الوحيد لدى الشعب العراقي، وعندما يتعرض هذا الصرح الى الخطر، من الطبيعي ان يكون موقف الناس بشكل آخر. وهو سحب المشروعية عن هذا النظام رغم ما أوتي من قوة وأساليب ترهيب وترغيب.

اما بالنسبة للحالة الثانية، فان مجرد الاصطدام بالحوزة العلمية وعلماء الدين، يلحق بالنظام السياسي والقائمين عليه تهمة العمالة للاجنبي، بمجرد انفصاله عن علماء الدين وشنه الحرب عليهم. وذلك لسببان:

الاول: معرفة الناس لسمة الاستقلالية التي تعد الابرز في الحوزة العلمية، ووجود علاقات وصلات بين الساسة واهل الحكم مع علماء الدين، يكون دليلاً على سلامة النظام السياسي من أي تبعية او ارتباط بالاجنبي، بينما في حال قطع هذه العلاقة، سيكتشف الناس حقيقة الحكومة التي تدير شؤونهم، فهي لا تعتمد على استقلالية العلماء ولا تتخذها دعامة للنظام السياسي، إنما تعدها مصدر خطر عليها، وهنا تبدأ جولة جديدة من الصراع بين السلطة والشعب، فاذا لا يتمكن عالم الدين او الحوزة بامكاناتها المتواضعة، من الاطاحة بهذا الرئيس وذاك الزعيم، فان الشعب يكون أقدر على هذه المهمة، وتجارب  الشعوب والأمم السابقة شاهد على ذلك.

الثاني: معرفة الناس بحقيقة التبعية الاقتصادية للغرب والدول الصناعية، وعدم تشجيع النظام الحاكم المعتمد على مليارات الدولارات من اموال النفط. لذا فان أي حرب يشنها الحكم ضد العلماء تترجم في الشارع على أنها ضوء اخضر من الخارج لإسكات العلماء والحوزة، ربما للحد من خطر تدخلهم في الشؤون الاقتصادية والتجارية ذات العلاقة الوثيقة بالمصالح النفطية والتجارية للدول الغربية.

وعندما ينفصل الحاكم عن العلماء، بمعنى انه يبتعد عن الشعب، وعن كل فرص التعليم والتقدم والتطور والابداع.. ومن المعروف أن اكثر المشجعين على طلب العلم والمعرفة وخوض ميادين الابداع والخلاقية في الميادين كافة، هم العلماء، بينما نلاحظ الساسة واللاهثين خلف الكراسي والمناصب، فلا همّ لهم سوى تحقيق الامتيازات، من هنا نجد ان في البلاد الغربية حرص الحكام على العلاقة الحسنة مع علماء الدين والكنيسة بشكل خاص. لضمان ثقة وعلاقة المجتمع وشرعيته. بينما في بلادنا – لاسيما العراق- نجد اول ما يحاربه الحاكم هو عالم الدين، وليس التخلف والتبعية والحرمان. وبالنتيجة فان اول مؤشر على الاضطراب والفوضى السياسية في البلاد، نراه في توتر العلاقة بين علماء الدين والحكام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/آب/2014 - 24/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م