حرب الطبقات المقبلة

أندرو شنغ

 

هونج كونج ــ ذَهَب المنظر الاستراتيجي العسكري الألماني كارل فون كلاوتزفيتز من القرن الثامن عشر إلى تعريف الحرب بوصفها استمراراً للسياسة بوسائل مختلفة، ومثله كمثل المنظر الاستراتيجي الصيني القديم صن تزو، كان كالاوتزفيتز يعتقد أن تأمين السلام يعني الاستعداد للصراع العنيف. ومع تحول العالم إلى مكان مضطرب على نحو متزايد ــ وهو ما يتجلى بوضوح في إحياء الصراع العسكري في أوكرانيا، واستمرار الفوضى في الشرق الأوسط، وتصاعد التوترات في شرق آسيا ــ فإن مثل هذا الفِكر يصبح شديد الأهمية والصلة بحال العالم اليوم.

إن الشعوب تخوض الحروب عادة من أجل الأرض. ولكن تعريف الأرض تطور حتى صار يشمل خمس طبقات: البر والبحر والجو والفضاء، ومؤخراً فقط الفضاء الإلكتروني. وكل من مجالات "حرب الطبقات" هذه يُـعَرِّف التهديدات التي تواجه العالم اليوم من منظوره. والواقع أن أسباب اشتعال مثل هذه الصراعات وأهدافها وخطوط المعركة التي تدور حولها من المرجح أن تتحدد بدرجات متفاوتة من خلال عوامل خمسة: العقيدة، والعشيرة، والثقافة، والمناخ، والعُملة. وبالفعل، تغذي هذه العوامل الصراعات في مختلف أنحاء العالم.

ويُعَد الدين، أو العقيدة، أحد أكثر الدوافع وراء الحروب شيوعاً في التاريخ، ولا يستثنى من هذه القاعدة القرن الحادي والعشرين. ولنتأمل هنا انتشار الجماعات الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي يواصل الاستيلاء على الأراضي في العراق وسوريا، وجماعة بوكو حرام التي انغمست في حملة وحشية من الاختطاف والتفجيرات والقتل في نيجيريا. وهناك أيضاً الصدامات العنيفة التي شهدتها ميانمار وجنوب تايلاند بين البوذيين والمسلمين، والتي شهدتها الفلبين بين الإسلاميين والكاثوليك.

ويتجلى العامل الثاني ــ العشيرة ــ في التوترات العرقية المتصاعدة في أوروبا، وتركيا، والهند، وأماكن أخرى من العالم، مدفوعة بقوى مثل الهجرة والتنافس على الوظائف. وفي أفريقيا، أصبحت الحدود المصطنعة التي رسمتها القوى الاستعمارية واهية ولم يعد من الممكن الدفاع عنها، فيما تحاول القبائل والمجموعات العرقية المختلفة اقتطاع مساحات من الأراضي لنفسها. ويعمل الصراع الدائر في أوكرانيا على تعبئة الإحباط الذي اختمر طويلاً والذي استشعره أولئك المنتمون إلى أصول عرقية روسية والذين باتوا مهجورين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

ويكمن المصدر الثالث المحتمل للصراع في الاختلافات الثقافية الجوهرية التي خلقها التاريخ الفريد للمجتمعات والترتيبات المؤسسية. فبرغم أن الولايات المتحدة وأوروبا تمثلان واحد على ثمانية فقط من سكان العالم، فإن هذين الكيانين تمتعا لفترة طويلة بالهيمنة الاقتصادية ــ حيث يمثلان نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي ــ فضلاً عن نفوذهما الدولي غير المتناسب. ولكن مع ظهور قوى اقتصادية جديدة، فإن هذه القوى سوف تتحدي الغرب على نحو متصاعد، ولن تقتصر المنافسة على حصص السوق والموارد فحسب؛ بل وسوف تسعى القوى الجديدة أيضاً إلى تطعيم النظام العالمي بفهمها الثقافي وأطرها المرجعية الخاصة.

وبطبيعة الحال، سوف يشكل التنافس على الموارد أيضاً أهمية بالغة، وخاصة مع بروز العواقب المترتبة على العامل الرابع ــ تغير المناخ ــ بشكل أكثر وضوحا. فالعديد من البلدان والمناطق تعاني بالفعل من نقص حاد في موارد المياه، وهو النقص الذي سوف يشتد عندما يتسبب تغير المناخ في إحداث كوارث طبيعية وتحويل الظواهر المناخية المتطرفة مثل الجفاف إلى أحداث شائعة بشكل متزايد. وعلى نحو مماثل، قد يؤدي التنافس على الغذاء إلى توليد الصراعات مع نضوب الغابات والموارد البحرية.

ويتناقض هذا النوع من الصراعات بشكل مباشر مع وعد العولمة ــ أو على وجه التحديد تمكين بلدان العالم بفضل اكتسابها القدرة على الوصول إلى الغذاء والطاقة في الخارج من التركيز على الميزات التنافسية التي تتمتع بها كل منها. وإذا أدت الصراعات الناشئة والضغوط التنافسية إلى فرض عقوبات اقتصادية أو عرقلة طرق التجارة الرئيسية على سبيل المثال، فإن الانقسامات الناجمة عن ذلك في التجارة العالمية من شأنها أن تقلص فوائد العولمة إلى حد كبير.

وعلاوة على ذلك فإن الاضطرابات الاجتماعية التي تصاحب الصراعات الاقتصادية عادة من الممكن أن تدفع البلدان إلى الانقسام إلى وحدات أصغر تتقاتل فيما بينها على القيم أو الموارد. والواقع أن هذا يحدث بالفعل بدرجة ما، مع تفتت العراق وسوريا إلى وحدات طائفية أو قَبَلية.

ويتعلق الخطر الرئيسي الخامس الذي يواجه العالم بالعملة. فمنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، تسببت السياسات النقدية التوسعية التي انتهجتها البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة في إحداث تدفقات متقلبة وواسعة النطاق من رؤوس الأموال عبر حدود الاقتصادات الناشئة، الأمر الذي أدى بدوره إلى توليد قدر كبير من عدم الاستقرار في هذه البلدان وتغذية الاتهامات بشأن "حروب العملة".

إن استخدام الصلاحيات التنظيمية والضريبية خارج أراضي الدولة ــ وخاصة من قِبَل الولايات المتحدة التي تتمتع بالميزة الإضافية المتمثلة في إصدارها للعملة الاحتياطية العالمية الأكثر بروزا ــ يعمل على تعزيز وجهة النظر التي تزعم أن العملات يمكن استخدامها كأسلحة. على سبيل المثال، عملت الولايات المتحدة فعلياً على تفتيت النظام المصرفي العالمي من خلال إلزام كل البنوك الأجنبية التي تعمل هناك بالتحول إلى شركات تابعة وإلزام البنوك الدولية التي لديها حسابات مقاصة بالدولار الأميركي بالامتثال التام للنظام الضريبي الأميركي، بل وحتى لسياسة الولايات المتحدة الخارجية إلى حد ما (على سبيل المثال، الامتناع عن التجارة مع أعداء الولايات المتحدة).

وبالفعل، بدأت الغرامات الثقيلة التي تفرضها الجهات التنظيمية الأميركية على المخالفين للقواعد التي وضعتها ــ وأبرزها التسوية الأخيرة بقيمة 8.9 مليار دولار التي دفعها بنك بي إن بي باريباس ــ في دفع البنوك الأوروبية إلى إعادة النظر في التكاليف المترتبة على امتثالها ومدى ربحية العمل في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، أرغمت المحاكم الأميركية الأرجنتين على التخلف عن سداد ديونها الوطنية مرة أخرى.

ولكن لعل الرسالة الأكثر قوة هي تلك التي تبثها العقوبات التي تستهدف صناعات النفط والتمويل والدفاع والتكنولوجيا في روسيا، فضلاً عن العقوبات المفروضة على المسؤولين الروس. فبهذا النهج، تبعث الولايات المتحدة وحلفائها برسالة واضحة إلى كل من قد يختلف مع السياسة الأميركية، وملخص هذه الرسالة هو: "تجنب استخدام الدولار والحسابات المصرفية المقومة بالدولار". والواقع أن بعض النشاط المالي يتجه الآن بالفعل إلى عالم الظلال، وهو ما انعكس في استخدام البتكوين وغيرها من العملات التي هي خارج نطاق سيطرة الجهات التنظيمية الأميركية.

ومن بين الأمثلة الحديثة للساخطين الباحثين عن بديل لزعامة الولايات المتحدة كان إنشاء بنك التنمية الجديد وترتيبات احتياطي الطوارئ بواسطة مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). والمشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن الساخطين في هذا الحالة يمثلون خمسة من أكبر الاقتصادات الناشئة على مستوى العالم، والتي تتجاوز مواردها مجتمعة كل موارد مؤسسات بريتون وودز. ومن غير المرجح على الإطلاق أن تكون معاملات مجموعة البريكس المصرفية مقومة بالدولار الأميركي.

في كلمة ألقاها مؤخرا، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن السؤال المطروح ليس ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تقود، بل كيف ستقود. ولكن مع تسبب العقيدة والعشيرة والثقافة والمناخ والعملة في تحويل العالم بشكل متزايد بعيداً عن النظام الدولي الذي يتمحور حول الولايات المتحدة، فإن مثل هذه التصريحات قد تكون مفرطة في التفاؤل. والواقع أن لا أحد في حرب الطبقات الجديدة يبدو واثقاً تماماً أي الأطراف ينبغي له أن يتبع.

* الرئيس السابق للجنة هونغ كونغ للأوراق المالية والعقود الآجلة، وحاليا أستاذ مساعد في جامعة تسينغهوا في بكين، أحدث مؤلفاته كتاب من آسيا إلى الأزمة المالية العالمية

http://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/آب/2014 - 18/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م