الديكتاتور و أسطورة القائد الضرورة

محمد علي جواد تقي

شبكة النبأ: الحاكم الذي يتولى ادارة شؤون الناس، لن يكون بحاجة الى وسائل ملتوية وخلق متاهات و ازمات ما دامت وسائله نظيفة ودقيقة وعلمية، وقبلها دوافعه نبيلة ونواياه حسنة، فهو يجلس خلف مكتب المدير أو الوزير او رئيس الوزراء وحتى رئيس الجمهورية، كما يجلس أي موظف آخر خلف مكتبه، ضمن شريحة الموظفين المتعاظمة في بلادنا، يقضي فترة خدمة معينة يؤدي فيها دوراً محدداً ضمن اختصاص معين، ثم يُحال الى التقاعد ويصرف له مرتب شهري خاص بحالته، ليحل محله موظف آخر من جيل الشباب المتخرجين حديثاً من المراكز الاكاديمية.

أما في غير ذلك (النقيض)، فان الحاكم بحاجة الى نسج الاساطير والصور الذهنية بين الناس، لتكون الوسيلة التي تضمن استمرارية وجوده خلف مكتب الرئاسة او يكون بيده قلم التوقيع على العقود والاتفاقيات الضخمة والمصيرية. لذا سمعنا وجربنا تجارب "القائد الضرورة"، و"الزعيم الخالد" و "الأب القائد" وغيرها من الصور الموحية الى القوة والمنعة.

هذه الصورة الذهنية، رغم انها مجرد وهم ولا اساس لها على ارض الواقع، إلا انها تترك أثرها على السلوك والموقف لدى البعض في اوساط الجماهير. لاسيما اذا تدخلت عوامل التغرير والترغيب وشراء الذمم والاصوات الانتخابية، فيصل اعتقاد هذا البعض الى حدّ اليقين بان زعيمه ورئيسه "باقٍ.. باقٍ.. باق"، ولا أحد بامكانه إزاحته عن الكرسي مهما كانت الاسباب، حتى وإن كان غير مرغوب به سياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً..

مثال ذلك ما نعيشه هذه الايام من حالة ترقب مشوبة بالحذر الرهيب على خلفية التصريحات المتشنجة لنوري المالكي وهو يعلن رفضه واستنكاره لعدم تكليفه بمهمة تشكيل الحكومة وحرمانه تحقيق حلمه بالولاية الثالثة.

إن مجرد اخبار او تكهنات بوجود عناصر موالية للمالكي في صفوف القوات المسلحة وقوى الامن في بغداد ومحافظات اخرى، ربما تكون وسيلة للضغط والاستفزاز، جعلت الكثير في الشارع يكونون من انفسهم وبشكل ذاتي صوراً متكاملة لمليشيات مسلحة تقوم باعمال عنف في الشوارع والمدن لزعزعة الأمن في البلاد لنصرة المالكي كونه – باعتقدهم- صاحب الحق ليكون رئيساً للوزراء. وإذن؛ الموقف خطير.. وربما يكون البلد على حافة الانزلاق في حرب اهلية، ثم تعمّ الفوضى و... الى آخر القائمة الوهمية من التصورات التي يتعكز عليها الحكام المستبدين الذين يربطون مصيرهم بمصير الملايين ومصير البلد بكل ثرواته وقدراته وتاريخه العريق، واحياناً يتحدثون عن "الثورة"، وانهم من حماتها..! فأي زعزعة للكرسي، ينعكس على أمن واستقرار البلاد والعباد..!

لكن لنا أن نتسائل عن نشوء هذه الحالة النفسية لدى البعض..؟

سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين" يجيب في بحث خاص "حول الديكتاتورية" في هذا أواخر الكتاب، بان حالة اليأس والاحباط هي التي تدفع الى التقديس وصنع الهالات والاساطير حول هذا وذاك. بل يشير سماحته، وهو الذي خبر الحكام وانقلاباتهم العسكرية طوال عقود من الزمن، الى التخطيط المسبق لتكريس هذه الحالة في النفوس، من خلال اجراءات أمنية واقتصادية وسياسية، تجعل كل شيء في الحياة صعباً، معقداً، ولا يمكن  الحصول عليه بسهولة، فتنتشر المحسوبية والمنسوبية والفساد الاداري، بل حتى  الطبقية الاجتماعية.

يقول سماحته: "الشعب اليائس يطيع الأوامر التي تصدر اليه، ومن الواضح ان المقاومة تأتي مع الغضب، ولا يثور الغضب مع وجود أسطورة تحفها قدسية فوق البشر إلا بأدراك أن الأسطورة التي قبلها الناس قد ثبت بطلانها".

من هنا؛ يمكن القول إن الكرة في ملعب الجماهير – حسب المصطلح السياسي الدارج- لأن الحاكم الذي يشعر بتهديد ماحق من اطراف داخلية وخارجية، يقاتل في الجبهات مستميتاً من اجل المنصب، فهو ليس لديه شيء يخسره، أما الشعب فهو حجر الزاوية بامكانه فعل كل شيء لوضع الامور في نصابها وتلقين الحالم بالديمومة في الحكم، درساً تاريخياً، وذلك بتحطيم كل الصور الزائفة والاساطير  الوهمية بالقوة والمنعة، واحتمال "التحركات العسكرية المليشياوية"، او "الانقلاب العسكري" او "الانتقام" او... وهذا نفسه الذي جعل الشعب العراقي – للأسف- طيلة عقود طويلة من الزمن يعيش في قبضة ضباط عسكريين منتهى قدراتهم الذهنية تنفيذ الاوامر بتحريك القطعات العسكرية في ساحات القتال، لكن شهدنا كيف اصبحوا قادة وزعماء لا يقهرون، فامسكوا بالماء والكهرباء والسكن والعمل والامن والزراعة والصناعة وكل شيء.. بفضل تلك الصور الوهمية والاساطير التي نسجها خبراء التطبيل والتلميع من حول "الزعيم الضرورة"، ولم يتمكن الشعب العراقي ابداً من إسقاط حاكم ديكتاتور بنفسه، رغم مساوئه وما جره على البلاد من كوارث ومآسي، فهو إما أن يسقط بيد ديكتاتور آخر، او بيد جهات خارجية كما حصل مع صدام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 13/آب/2014 - 16/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م