هناك حوادث ونكبات كثيرة حلّت على البشرية على طول تاريخها المرير،
والقليل القليل منها علق في الذاكرة وأثبتتها محابر الأقلام في قراطيس
الأيام يتداولها جيل بعد آخر، ولأن الحدث جلل والخطب عظيم، فإن ظلال
المأساة تظل هي المسيطرة على الحدث في كتابات الكتاب أو في أذهان
الناس، وتبقى العوامل والمسببات عالقة في قاع الذاكرة قلما ينزل اليها
المرء لاستكشافها ومعرفة خباياها، وهذا جزء من الظلم الذي يحيق بالحدث
العظيم، نستذكره ونجتره كل عام دون أن نقف على حقيقة العوامل السياسية
المحيطة بالحدث نفسها والتي ساهمت بشكل كبير في حصوله، وهذا جزء من
عملية تغييب الذاكرة المجتمعية أو ربما يُراد لها أن تنسى العوامل حتى
لا تنهض من كبوتها، لإدراكنا بأن التاريخ يعيد نفسه، ومعرفة الأسباب
والمسببات للخطب العظيم يقي الأمة من الوقوع في المأساة ذاتها، أو ربما
يقلل من الخسائر.
ومأساة استشهاد الإمام الحسين(ع) في كربلاء عام 61هـ، هي من أكبر
الحوادث الخطيرة في تاريخ البشرية ولا يفوقها حدث ولن يكون، رغم ما
تعاني منه البشرية وما مرّت به وما تمر وهي تواجه طغاة يأخذون الناس
على الظنّة ويقتلونهم على الشبهة، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم
ويبيدون الحرث والنسل، ولو أمكن الوقوف بصورة جادة على العوامل
السياسية التي سبقت الحدث ورافقته لأفاد الأمة في حياتها كثيرا، وهذا
ما سينعكس ايجابيا على بقية الأمم مسلمة كانت أو غير مسلمة، لأن جبهة
الحق والباطل قائمة في كل بقعة من الأرض، وان مسرحها مرفوعة استاره في
كل حين وان اختلفت الصور والأشخاص الذي يتحركون على خشبته.
وإذا أجرينا مسحاً للمئات من المصنفات والكتب التي ناقشت النهضة
الحسينية، وآلاف الأبحاث والمقالات والدراسات، سنجد أن الجانب المأساوي
أخذ حيزاَ كبيراً، وكادت الخلفية السياسية لأصل الحدث تغيب بشكل ملفت
للنظر، وهذا أمر على غاية من الخطورة في تنظيم فهم الأمة للحدث
وتجميعها وتنضيدها للعوامل المسببة لها بما يعينها على مواجهة التحديات،
ولأهميته لم يغفله المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي في موسوعته الكبيرة
"دائرة المعارف الحسينية" فأفرد بابا من خمسة مجلدات تناول فيه
بالتحليل "العامل السياسي لنهضة الحسين" صدر منه الجزء الأول عام 2007م
في 451 صفحة من القطع الوزيري عن المركز الحسيني للدراسات في لندن.
مطالعات داخل النص
وكان هذا الجزء من الموسوعة الحسينية الى جانب الأجزاء الأخرى محل
اهتمام الباحثين، ظهر ذلك جلياً، في أحد أوجهه، من خلال مشاركة المركز
الحسيني للدراسات في معارض الكتاب الدولية، ومنها معرض أربيل الدولي،
حيث أثارت الموسوعة انتباه الأديب كمال الحاج حسين غمبار نائب رئيس
إتحاد الأدباء الكرد في أربيل الذي زار جناح الموسوعة في معرض أربيل
الدولي السابع للكتاب الذي انعقد في الفترة 2-11 أبريل نيسان 2012م،
فحرص على اقتناء الأجزاء المطبوعة منها آنذاك وكانت 76 جزءاً فاشتراها
جميعها، ونتركه يعبر عن مشاعره كما بثّها في كتابه الجديد "مطالعاتي في
الجزء الاول من العامل السياسي لنهضة الحسين" الصادر حديثا (2014م) عن
بيت العلم للنابهين في بيروت في 160 صفحة من القطع المتوسط، فبعد أن
ذهب في اليوم التالي واشترى المجموعة: (نقلت المجموعة بكل شوق ولهفة
الى البيت، ووضعتها في زاوية خاصة من مكتبتي لكأنها تنتظر قدوم الزائر
الكريم فمنذ زمن طويل وأنا استقبله بفرحة غامرة)، ولم يكتف الاديب
النهم بالنظر فكان أن اختار أحد أجزائها وهو "العامل السياسي لنهضة
الحسين" فالتهمه قراءة لينتهي به المطاف الى قراءته بموضوعية وتقييد
مطالعاته في كتاب مستقل مثنيا على مؤلفه بالقول: (أنا أمام علاّمة
نابغة يمتلك خزيناً كبيراً من المعارف المتنوعة، والأفكار والآراء
الجريئة بروح علمية ومنهجية موضوعية في دراسة تحليلية دقيقة مجردة عن
النزعة الذاتية المتزمتة، وحتى وإن لم تكن الآراء والأفكار التي يستشهد
بها قد لا تتلاءم مع أفكاره وتطلعاته، لكنه يلقي الأضواء عليها بدقة
وأمانة، ويحللها تحليلاً علمياً).
ولأن الموسوعة الحسينية دخلت عالم الأدباء والمثقفين من أوسع
الأبواب، فإن الأديب كمال غمبار المولود عام 1937م في مدينة كويه
بمحافظة أربيل، عندما علم بما انعقدت عليه عزيمة المركز الحسيني
للدراسات بلندن لعقد ندوات عن الموسوعة الحسينية في عموم محافظات
العراق، كان من السباقين والمهتمين لأن تحظى أربيل بعقد ندوة عن دائرة
المعارف الحسينية ليتعرف الأدباء والمثقفين الكرد على أكبر موسوعة
معرفية تتابع جزئيات النهضة الحسينية، ولذلك استقبل مقر الإتحاد وفد
الموسوعة الحسينية القادم من لندن عصر يوم الإثنين 9/7/2012م في ندوة
حوارية رفعت شعار "عاصمة نابضة بالحياة تحتضن موسوعة الحياة"، وفي هذه
الندوة تسلمت باليد من الأديب كمال غمبار بعد انتهاء الندوة مسودة كتاب:
"مطالعاتي" على كتاب "العامل السياسي لنهضة الحسين" ليعبر عن انجذابه
لدائرة المعارف الحسينية قولاً وفعلاً.
ومن يطالع مطالعات الأديب غمبار سيكتشف الكثير من الأمور عن أفكار
وشخصية أديب مسلم من القومية الكردية ينظر إلى واقعة كربلاء بمنظار
عقلائي مسترجعاً الذاكرة ليعيد ذيول الحدث الى الأيام الأخيرة التي
سبقت رحيل النبي الأكرم محمد(ص)، وما أنتجته سقيفة بني ساعدة في
المدينة عام 11 للهجرة وانعكاساتها المرّة على واقعة عام 61 للهجرة في
كربلاء وتجدد حوادثها حتى يومنا هذا.
واقع اليوم
حرص الأديب غمبار على عدم تجاوز الترتيب الذي وضعه المحقق الكرباسي
في تناول الموضوعات المتعلقة بالعوامل السياسية لنهضة الحسين(ع)، في
الوقت نفسه لم يتوقف عند النص والمتن، وإنما أخذه كشاهد على ما عليه
اليوم أمر الأمة وبخاصة الأمة العراقية في عهد ما قبل عام 2003م وما
بعدها، وهو التاريخ الفاصل بين سقوط النظام السياسي الشمولي وقيام
النظام السياسي التعددي، فهو في تناوله للموضوعات التي استعرضها
الكرباسي يستفيد منه في قراءة الواقع كمواطن ناقد خبر حياة العهدين
الملكي (1921- 1958م) والجمهوري (1958- حتى اليوم)، فكلما قرأت عنواناً
يأخذك من المحيط التاريخي لواقع المسلمين في القرن الأول الهجري إلى
واقع اليوم، لنكتشف معه المشتركات في جانبيها السلبي والإيجابي، داعيا
الإنسان حاكما أو محكوما كي يلفظ الأولى ويتمسك بالثانية من أجل حياة
سعيدة لأمة عانت الكثير على يد سلاطين عمّروا القبور والقصور وخرّبوا
الضمائر والدور.
وهذا الأسلوب النقدي الذي استخدمه الأديب غمبار نجده في مجمل
العناوين التراتبية التي استلّها أو استحدثها من كتاب العامل السياسي،
بدءاً من عنوان "صفات السياسة والسياسيين" إلى عنوان "أمور أخرى" مروراً
ببقية العناوين: "أمور لابد منها، تعريف السياسة، محور السياسة،
التشريع الإسلامي، النظام، مظاهر السياسة، السياسة الإقتصادية،
الإقتصاد، السياسة القضائية، السياسة الإعلامية، السياسة الداخلية،
السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، الحريات وحدودها، حرية العقيدة
والفكر، حرية الرأي والتغيير، الحرية الإجتماعية، الحرية السياسية،
الحرية المدنية، الحرية الإقتصادية، الانتخابات، الحقوق والسياسة،
الأمن، المعارضة، الأقليات، التربية والتعليم، العِمالة، الضمان
الإجتماعي، العادات والتقاليد، السياسة الخارجية، السَّفر، التمثيل
الدبلوماسي، الدفاع والحرب، الرِّق، الهجرة واللجوء، سياسة الرسول(ص)
في المدينة، وولاية العهد" لينتهي الكتاب بـ: "استنتاجاتي".
على سبيل المثال يرى الفصل بين السلطات هو الإصل في النظام النيابي
الديمقراطي، ولكنه من واقع التجربة الحياتية يلاحظ تسلط الحزب الحاكم
على مجمل السلطات، ومنها السلطة القضائية، ولهذا لا يرى أملاً في أن: (تتمتع
السلطة القضائية بالحصانة والاستقلالية في ظل طغيان السلطة الحزبية على
شؤون القضاء، بحكم التدخل السافر في المحاكم، وتعيين القضاة على أساس
الإنتماء الحزبي وليس على أساس الكفاءة والنزاهة والصدق والأمانة).
وهذا الخلل الفظيع نلمسه أيضاً في السلطة التشريعية داخل النظام
النيابي التعددي، وبخاصة عندما يرجع النائب الى رأي الحزب او زعيم
الكتلة خلافاً لما يراه مصلحة الناخبين أو عموم الأمة، فيكون عبداً
للحزب في حين ينبغي أن يكون خادماً للشعب، ومثل هذا النائب هو في واقعه
غير أمين لأصوات من انتخبه، ومثل هؤلاء كما يؤكد الأديب غمبار في أكثر
من موضع هم كارثة على أي نظام سياسي تعددي مآله الى الخراب وتجاوز
الدستور، وفي هذا السياق يؤكد: (وقد تبين لي نتيجة لتجارب الشعوب عبر
أنظمة الحكم، ان أي نظام يقع تحت سيطرة حزب واحد، ولا يؤمن
بالديمقراطية والتعددية يصبح بالتالي نظاماً دكتاتورياً فاشياً).
إن القراءة الموضوعية لكتاب "العامل السياسي لنهضة الحسين"، ومن
خلال ملاحظة العناوين الواردة فيه والتي ناقشها الأديب غمبار، يوضح
بجلاء أن العلامة الكرباسي يضع الأسس الأولية للسياسة التي ينبغي أن
تكون عليها دولة الإنسان بنظرة فقهية وقانونية ثاقبة، فهو يتناول
بالتفصيل كل ما يتعلق بمفردات السياسة الداخلية والخارجية وينظّر لها
كفقيه حاذق، وحسب استنتاجات الأديب كمال الحاج حسين غمبار: (بعد قراءتي
المتأملة الممعنة المركزة توصلت الى قناعة تامة بأنَّ العلامة الفاضل
أستاذنا الكريم يتحلى برؤية فكرية إسلامية عقلانية منفتحة، فهو يبحر
كبحّار ماهر يشق عباب الماء بنظرة ثاقبة وذكاء متقد عبر امتلاكه الغزير
للعلوم الدينية والدنيوية، مؤمناً بالعقل والاجتهاد والمنطق ليشكل
علاقة جدلية بين الدين والدنيا، بين العلوم الدينية والعلوم الوضعية
عبر خلق توازن دقيق ينفع الناس جميعاً، ليخلق بينهم الإلفة والمحبة
والإبتعاد عن نزعة معرفية مغلقة، وعلى وفق منهجية موضوعية يمكن لكل
باحث عن الحقيقة الإقتداء بها)، ولذلك أعتقد أن الكتاب ينبغي أن يجد
مكانه الطبيعي في كليات ومعاهد العلوم السياسية، وأن يكون دليل كل
سياسي يمارس دوره، في السلطة أو في المعارضة، ولا سيما لدى الحكومات
الفتية الجديدة العهد بالنظام النيابي التعددي، فهو كتاب ينظر الى
السياسة من منظار الفقه والقانون، يوالف بين الدين والدنيا.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |