ثالوث الانحياز والتعصّب والجهل

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: "الانحياز"، فعل طبيعي يصدر من الانسان المنتمي الى فكرة او جهة او كيان ما.. فمنذ البداية كانت هنالك العشيرة والقبيلة والامة، وعلى هذا الاساس تعاملت الرسالات الالهية مع بني البشر، وعالج الانبياء والمرسلين وايضاً المصلحين مشاكل الانسان وازماته بإضاءة الحلول والبدائل، فهم لم يأتوا الى أناس متفرقين يعيش كل واحد منهم فكرة خاصة او عقيدة خاصة، إنما تعاملوا مع كيانات اجتماعية ومكونات دينية وعرقية، بتقديم البديل الافضل في اطار هذا الانتماء لهذه العشيرة او تلك القبيلة او هذه الارض او تلك الدولة، وكان هذا من عوامل انتشار الاسلام وتكريس الايمان في النفوس.

بيد أن هذا الانتماء والانحياز اليه، لم يبق في اطار تلك العشيرة او القبيلة، إذ كان لابد من "التطور السياسي"، فكان الانتماء الى المبادئ والقيم التي تتكفل باسعاد الانسان وحل مشاكله وازماته. وتحصل المشكلة او التقاطع عندما يتصور البعض ان الرجوع - قليلاً او اكثر- الماضي واسترجاع القناعات والولاءات القديمة من شأنها ان تكسبهم هييبة او فائدة معينة، بينما الانتماء الى المجموع في اطار الشعب او الامة، والتفكير بالمصلحة العامة، يفقد صاحبه التميّز. وهنا تحديداً تتشكل احدى بذرات "التعصّب"، وهي مفردة نابعة من "العصبية" والانفعال.

وقد سعى الاسلام وجهد وجهاد من شخص الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، لمعالجة هذه الحالة النفسية لدى المسلمين وتوجيه هذه الطاقة الداخلية في بوتقة المصلحة العامة وهي الامة، ولمن يريد، يراجع القرآن الكريم، فهو مشحون بالتوجيه الى مساوئ التعصّب والانفعال، بل انه يذكر الانسان بانه متقدم ومتطور بالاسلام، وما العصبية او الانحياز الى الفئة الصغيرة في المجتمع والامة، إلا رجوع الى الماضي (الجاهلية)، وهو ما لا يقبله الانسان المتطلع الى التطور والتقدم في الحياة.

رغم ان مفردة التقدم والتطور، محببة الى النفوس ولا يختلف عليها اثنان، لكن نجد العكس (التخلف) على  ارض الواقع، والى هذه الحقيقة يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "نحو التغيير" حيث يقول مشيراً الى تجربة الاسلام مع المجتمع الجاهلي الاول: "كانت الروحية السائدة آنذاك تندفع وراء النزاعات المادية، وتقف مدافعة عن الاعتقادات الباطلة والعادات الساذجة، وكان الجهل والعصبية المحرك الرئيسي لها. وإنَّ الاختلافات كانت في أغلب الأحيان تصل إلى الإبادة والتدمير، دون أن تقيم وزناً للأخلاق والقيم الإنسانية..".

واذا لاحظنا الاوضاع التي تعيشها بلادنا على الصعيد السياسي تحديداً، يمكننا تفسير الاسقاطات والهزائم المتكررة، ثم انتشار حالة الخيبة والاحباط على الصعيد الاجتماعي، فالجميع يدّعي التطور والتقدم، بيد ان يتسبب في التخلّف ويخفي "حنيناً الى الجاهلية"، من خلال حالة التعصّب والتطرف للمصحلة الخاصة او الفكرة الخاصة. والغريب حقاً، ان بعض بلادنا، - والعراق مثالاً- تدعي حمل لواء "الديمقراطية" وانها تعمل في سياق التعددية السياسية وتطبيق مفهوم المشاركة الجماهيرية وصنع القرار عبر القنوات المؤسساتية، لكن ما ان تصل القضية الى المصلحة الشخصية او الحزبية او العرقية، حتى نرى الارتداد – ربما بشكل لا ارادي- والانكفاء على الذات بغير قليل من التعصّب، ولعل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم في العراق، يعطينا صورة مصغرة لهذه الحالة النفسية الضاربة في الجذور الجاهلية.

طبعاً؛ للتعصب مساوئ كثيرة تتوزع على الفرد والمجتمع، بل وحتى على الاسرة، وربما يكون الاستبداد بالرأي وعدم رؤية الخطأ، او تصور الصواب دائماً، يكون نقطة التقاء معظم مساوئ هذه الحالة.. فالعنف والغاء الآخرين والاستئثار ومصادرة الحريات.. كلها تستمد قوتها وديمومتها من التعصّب، فاذا تصور البعض ان "الديمقراطية"، كمفهوم وممارسة عملية، قادرة لوحدها على ازاحة الديكتاتورية وتنظيف البلد منها، فالتجارب تؤكد ضرورة إعادة النظر في هذا التصور، إذ حتى الذي يمارس الديمقراطية، فهو غير قادم من كوكب آخر، إنما ينتمي الى جذور فكرية وقومية وطائفية، فهو بزعمه يطبق الديمقراطية، إنما على طريقته الخاصة، واذا حاججه الناس بانه يمارس التعصّب لفكرته وحزبه وشخصه، سيقول: "إنما ان منقذ للبلاد والعباد.. فكل شيء متعلق بهذه الفكرة او ذاك الشخص او ذلك الحزب"!.

لذا ينبه سماحة الامام الشيرازي منذ عقود، وقبل ان نرى الديمقراطية، بان "..ما نراه من حروب بين الناس، فإنه يرجع في كثير من الأحيان، إلى تلك النعرات القبلية الجاهلية، أو إلى النزعات القومية التي توارثها الناس، جيلاً عن جيل. وبدأوا يحكمونها على المنطق والعقل والقيم الصحيحة، فكانت مانعة عن التغيير نحو الحسن..".

من هنا؛ يمكننا القول: ان أدعياء التغيير والبحث عن الخيارت المفضلة للبلاد والعباد، عليهم ان يفكروا مليّاً في أسس وجذور تفكيرهم وأن تكون لها – ولو شعيرات- جذور بما حاربه الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما وضع القواعد الاساس للحضارة الاسلامية، وبين الشروط والعوامل الحقيقية للتغيير والتطور.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12/آب/2014 - 15/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م