شبكة النبأ: قد تبدو حالة التقوقع،
حالة مرضية تنتمي الى الأمراض النفسية الكثيرة، وهذا امر وارد طبعا،
ولكن ما نعنيه بهذه القيمة المتخلفة في هذا المقال، تلك العزلة الطوعية
التي يضربها الانسان على شخصه، فيظهر كأنه يعيش في عالم آخر، يفصله عن
النسيج المجتمعي، وغالبا ما يعوز مثل هؤلاء الاشخاص المصابين
بالانطواء، الارادة القوية، وحب الاطلاع، الذي يدفع الانسان في الوسط
الاجتماعي او العملي او الدراسي او اي وسط بشري آخر، ويختلط بهم ليخرج
بالنتيجة بحصيلة من التجارب التي تساعده في التطور واكتساب التجربة.
وقيمة التقوقع المتخلفة، تفرض قيودا قاسية على الإنسان، وتصيبه
بالعجز والتردد، الامر الذي يجعله عرضة الى حالات مرضية صعبة، منها
التخوّف من الناس والأشياء والقرارات، وتجعل منه إنسانا مكتفيا بذاته،
وهو امر في غاية الخطورة، لأن النتائج الحتمية له، هي قتل كل المواهب و
وأد جميع الطاقات الفكرية والعملية التي يمتلكها الإنسان، بالتربية، او
بالتجربة والاحتكاك، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان عبءاً على الوسط الذي
يعيش فيه، كونه غير قادر على تقديم اي منجز وفي أي مجال كان.
ويؤكد المعنيون، أن المصاب بحالة التقوقع غالبا ما يكون شخصية قليلة
الكلام تحب العزلة وتتحاشى الناس بإرادتها، وتستمتع عندما تكون وحيدة
وتقلق عندما تكون بين الناس، وفي الغالب تكون هواياتها فردية مثل
القراءة والتأمل والاستماع، وليس لها أصدقاء كثيرون، وهي شخصية لا تجيد
التعبير عن انفعالاتها، وتجد صعوبة في التعبير عن أفكارها ولا تتحدث
بلباقة، بسبب حالة التخوّف من الآخر، والتردد في اتخاذ المواقف الصحيحة
في الوقت المناسب، نتيجة لفقدان الثقة بالنفس او انعدامها.
وفي الغالب تترسخ هذه القيمة المتخلفة، في المجتمعات المتأخرة
ثقافيا وعلميا واجتماعيا، فتصبح حالة الانطواء، انعكاسا لما تفرزه
علاقات اعضاء المجتمع مع بعضهم، وهنا يبرز الدور التربوي المهم للعائلة
في طريقة تربية ابنائهم، فالطفل الذي يعيش في جو عائلي منفعل غير قامع،
يتيح للطفل ان ينمو في وسط مشجع على الاختلاط والاندماج مع الاخر، من
دون معوقات نفسية او ثقافية وما شابه، والسبب ايضا أن الانسان الذي
ينشأ ويترعرع في وسط غير قامع، ويكون الطفل قادرا على مواجهة الناس،
والتعامل معهم بثقة كما لو انه ندّ لللاخرين وقادر على التفاعل معهم،
لذلك تتحمل العائلة بالدرجة الاولى مسؤولية زرع الثقة في نفس الطفل،
وتعمل على تطوير قدراته في التعامل والتفاعل مع الآخرين من دون أية
عوائق تُذكر، والعائلة ايضا هي المسؤول الاول عن حماية الطفل من الوقوع
تحت رحمة هذه القيمة المتخلفة، وهي قيمة التقوقع التي تصيب الانسان
بالشلل المجتمعي.
إذاً القضية هنا ليست فردية، بل هي نتاج وسط مجتمعي منكفئ على نفسه،
سلبي، غير مبادر، يساعد على خلق قيمة التقوقع والانطواء ويزرعها في نفس
الانسان، ويدفعه للتعامل مع الناس وفقا لها، علما انها تعد من القيود
النفسية التي تسهم في حبس قدرات الفرد والمجتمع على حد سواء، لذلك لابد
أن تتحرك العائلة في الاتجاه التربوي الصحيح، وتدفع اطفالها للدخول في
معترك الحياة، مع المراقبة البعيدة او غير المحسوسة، بمعنى مطلوب من
الأم أو الاب أن يقوم بتشجيع الطفل على الدخول مع اقرانه الاخرين، في
حالة من التواصل والاحتكاك الدائم، والتعامل معهم من دون تردد فيما
يطور مواهبه وقدراته، ولكن على الابوين مراقبة ابنهما او طفلهما من
بعيد حتى يضمنا سلامته اولا، ومن ثمن توجيهه على السبل الصحيحة في
التعامل مع اقرانه.
وبهذه الطريقة تستطيع العائلة أن تؤهل الطفل بما يجعله منفتحا، وليس
انطوائيا متقوقعا في ذاته، وبالنتيجة يكون الطفل فاعلا منتجا، يحب
التجديد ويسعى الى التغيير الافضل، على العكس تماما من الطفل او
الانسان الساكن، الذي يميل الى الانطوء للاسباب التي ذكرناها سابقا،
فيصبح عضوا فاشلا في المجتمع، كونه غير منتج، بسبب عجزه عن الاختلاط مع
الاخرين، نتيجة لسيطرة قيمة التقوقع على فكره وسلوكه معا. |