شبكة النبأ: يؤكد المعنيون بالفكر
السياسي، على الفارق الكبير بين بناء السلطة وبناء الدولة، وفيما يعد
بناء الدولة ميزة القادة السياسيين الناجحين، فإن بناء السلطة، تعد
بمثابة الخطوة الأولى للسقوط السياسي، حتى لو كانت المؤشرات الأولية لا
تدل على ذلك، بمعنى أوضح يشعر القيادي وهو منهمك في بناء السلطة...
بالقوة والغرور، ويقتنع تمام الاقتناع بأنه يمضي في الاتجاه السياسي
الصحيح، تدعمه في ذلك نجاحات آنية، خاصة تلك التي يتفوق بها على خصومه،
عندما يبدأ رجل السلطة، بتصفية الخصوم بلا رحمة ولا تردد، مستخدما كل
ما يتوافر له من وسائل وأساليب مخادعة ودهاء، لتدمير الخصم وتركيز
السلطة بشخصه على حساب بناء الدولة.
ينتشر هذا النوع من العمل السياسي في المجتمعات المتأخرة، لأسباب
عديدة، أهمها عدم قدرة المجتمع المتأخر على تخريج قادة سياسيين ناجحين،
وطالما أن المجتمع المتأخر يشكل حاضنة جيدة لتخريج الساسة الفاشلين،
إلا ما ندر، فإن معظم من يتحكم بالقرار السياسي في المجتمعات المتأخرة،
هم بناة السلطة، وليس بناة الدولة، ولعل الإشكالية الأكثر تعقيدا في
هذا الامر، عدم فهم القائد السياسي في الدول المتخلفة، لأهمية بناء
الدولة، وتفضيله قبل كل شيء تحصين العرش، وحماية المنصب، ومسك السلطة
بقبضة حديدية، بعيدا عن الدستور (الشكلي/ المؤقت)، كونه من صناعة
الحاكم نفسه، بما ينسجم وتطلعاته في تضخيم السلطة، وتدمير المناهضين له
على مدار الساعة.
وغالبا ما تغيب عن عقول وبصائر القادة المتمسكين بالسلطة، نتائج
أعمالهم المستقبلية، فيكون الهم والهدف الأول بل والشغل الشاغل لهم،
كيفية بناء السلطة بكل الاساليب المتاحة، بعيدا عن القانون والدستور
وما شابه من ضوابط، تصب في صالح بناء الدولة وليس العكس، وغالبا ما
يختلق القادة السلطويون (بناة السلطة) بأنهم على حق، عندما يبنون
سلطانهم بالحديد والنار، أو على حساب بناء مؤسسات الدولة الدستورية،
ويظن هؤلاء السياسيون، أنهم في منأى عن السقوط، وأن حماية سلطتهم
وتضخيمها على حساب بناء الدولة، سوف تحميهم من المصير الذي وصل إليه
حكام السلطة السابقون، والمشكلة التي لا يوجد تفسير واضح لها، ذلك
التناقض الواضح بين ما يصرّح به الحكام السلطويون، من أقوال عن بناء
الدولة والقانون، فيما تدلل قراراتهم وأفعالهم على النقيض من ذلك
تماما.
ولعل السبب الأساس في جعل هؤلاء الحكام، أكثر تمسكا بالسلطة على
حساب بناء الدولة، وجعلهم أكثر ضبابية ازاء السلطة، هم البطانة التي
تحيط بالقادة السلطويين، أولئك الذين يرتبط مصيرهم بمصير الحاكم،
وتشتبك مصالحهم ومنافعهم وامتيازاتهم، بوجود الحاكم على العرش أطول مدة
ممكنة، من اجل حصد المغانم، حتى لو كان السحت الحرام مصدرها، بما في
ذلك نهب ثروات الشعب، لاسيما الفقراء منهم، لذلك غالبا ما تعجّل هذه
البطانة بسقوط الحكام، فيما يعتقد الحكام، أن بطانتهم المقربة منهم
والمحيطة بهم، أكثر الناس وفاءً لهم.
لهذه الاسباب وسواها، تضيع فرصة بناء الدولة، في المجتمعات
المتأخرة، ولكن عندما يتوافر الحاكم صاحب الرؤية الواضحة والارادة
الحقيقية لبناء الدولة، حتى لو تم ذلك في الدول والمجتمعات المتأخرة،
سنلاحظ إمكانية نهوض هذا القائد السياسي بدولته وشعبه، ولدينا أمثلة
كثيرة وقريبة في هذا المجال، منها تجربة القائد السياسي المحنك والراحل
(نلسن مانديلا)، هذا الرجل الذي أفنى عمره السياسي والبايولوجي في سجون
النظام العنصري لدولة جنوب افريقيا، وعندما اصبح رئيسا للدولة، بعد
خروجه من السجن، لم يسعّ لبناء سلطته ولم يتمسك بها، بل واصل نضاله، من
اجل بناء الدولة المدنية القوية المستقرة، وتمكن من وأد الفتن الكبرى،
والضغينة، والثأر، بين السود الأكثرية والبيض الأقلية، وبنى نلسن
مانديلا دولة مؤسسات، وعندما اطمئن لهذه النتيجة التي سعى إليها و وحّد
الشعب، غادر السلطة على الرغم من تمسك السلطة به، وسعي الجماهير
لتنصيبه رئيسا أبدياً لها!!.
هذا هو الفرق الواضح والكبير، بين رجل السلطة ورجل الدولة، ولكن
قلما تجود الأقدار بمثل هؤلاء القادة العظماء، بل غالبا ما تضيع فرصة
بناء الدولة على كثير من رجالات النضال، أولئك الذين يقضون قسما كبيرا
من اعمارهم في النضال من اجل الشعب، واسقاط الحكام الظالمين، ولكن
عندما يصل هؤلاء المناضلون الى السلطة، ينقلبون من رجال نضال وبناة
دول، الى رجال سلطة مغرية، لكنها قاتلة في آخر المطاف!. |