شبكة النبأ: معروفٌ عن الدول المتقدمة
في اعتمادها على المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات التي ترفد مراكز
القرار بالرؤى والأفكار والخيارات، بما يسهّل عليها اتخاذ القرارات
الصائبة وتجنب الأخطاء القاتلة، في الصعد كافة، سواء في السلطة
التنفيذية او في التشريعية او القضائية، وحتى ما يتعلق بالمؤسسات
الحكومية وغير الحكومية في الدولة، وهي في ذلك تستقي تلك الرؤى
والأفكار من منظومة العقيدة التي تؤمن بها وتقوم على أساسها الدولة،
لذا نلاحظ مراكز الأبحاث في الغرب، إنما تخدم النظريات التي تقوم على
أساسها الدول هناك، في مقدمتها الرأسمالية والليبرالية والعلمانية
وغيرها.
أما في بلادنا الإسلامية، فإننا ليس فقط حرمنا خلال قرن من الزمن من
هكذا تجربة في ظل أنظمة ديكتاتورية وصنمية، إنما افتقدنا المبادرة من
لدن جماعات حملت لواء التغيير والإصلاح في الأمة، طيلة العقود الماضية.
نعم؛ هنالك مراكز دراسات تخصصية في السياسة والاقتصاد تابعة لجهة معينة
لها توجهها الطائفي والإيديولوجي، فهي إن أنتجت رؤى وأفكار، فهي لخدمة
هذه الجهة ولا تمس واقع الأمة بشكل عام.
ولمن يريد التعرف على مركز دراسات وأبحاث عالج مختلف قضايا الأمة
وقدم الحلول والخيارات العملية، يمكنه مراجعة مؤلفات سماحة الامام
الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- فالتنوع والشمولية في
القضايا والمسائل، لم يكن على سبيل الترف الفكري او التنظير بهدف البحث
عن دور في الساحة، إنما تجلّت فيها الهدفية السامية والرؤية الثاقبة
نحو عالم سعيد قابل للتحقق يعيش فيه الإنسان في كل مكان، وليس فيه من
المثاليات مما طرحته الافكار الفلسفية التي اشترطت المستحيل لتحقيق ما
يسمى بـ "المدينة الفاضلة".
ان من أهم وابرز ملامح التوجه الفكري والثقافي للإمام الراحل، والذي
كان بمثابة مركز دراسات متكامل، وجود المنبع والجذور القوية التي يستقي
منها رؤاه وأفكاره بكل ثقة وشجاعة، فعندما كان يتحدث بشكل مكرر في
محاضراته، ويذكرنا دائماً في مؤلفاته، عن الاستعداد لليوم الذي تتحقق
فيه أمنية "دولة المليار مسلم"، فانه كان يعي ما يقول تماماً.. وكان
يسوق الأمثلة والبراهين على إمكانية حدوث ذلك، لإبعاد وهم المثالية عن
البعض، ولعل تجربة الاتحاد الاوربي الذي تقدم خطوات بعيدة باتجاه
الوحدة، يكون مثالاً حيّاً وعملياً، حيث هنالك مواطن أوربي، وليس فرنسي
او اسباني او روماني او الماني و... فهو حرٌ في التنقل داخل القارة دون
الحاجة لتأشيرة من السفارة، كما هو حر في تسويق بضاعته دون رسم جمركية،
كما توحدت العملة وإجراءات عديدة أخرى.
وعندما كان يتحدث عن "الوحدة" فانه يعده من المبادئ المقدسة في
الإسلام، وعليها قامت الحضارة الاسلامية على يد النبي الأكرم، صلى الله
عليه وآله، وتفتتها كان السبب في انهيارها. كذلك الحال في حديثه عن
"الحرية" و"العدالة" و"السلام" وغيرها من المبادئ الأساس في الإسلام،
وهذا يبين الحرص الواضح على التأصيل الفكري لدى سماحة الإمام الراحل،
ليفتح الطريق أمام الاجيال القادمة لخوض غمار البحث والدراسة في
امكانية تحقيق هذه المبادئ على الواقع والشروط و الآليات المطلوبة.
من هنا يمكن القول، إن مكتبة الإمام الراحل، تمثل – بالحقيقة- مصدرا
وينبوعاً للأفكار والرؤى التي تغذي أي مركز ابحاث ودراسات يروم معالجة
ظاهرة او قضية معينة في المجتمع والدولة. لذا يمكننا تصنيف هذه المكتبة
البحثية والدراساتية على ثلاثة أصناف: العلمية والثقافية – الفكرية
والحركية.
أولاً: بالنسبة للجانب العلمي فقد أبدع سماحة الامام الراحل طريقة
علمية لمناقشة مختلف قضايا الامة في ضوء الأحكام والمبادئ الإسلامية، و
وضع إطاراً موحداً لها تحت عنوان "الفقه"، وهي سابقة في الساحة الفكرية
والثقافية، حيث كانت مفردة "الفقه" مقتصرة على الأحكام الشرعية، في حين
قدم سماحته للأمة رؤاه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والبيئة
والعولمة وغيرها، تحت عنوان "فقه السياسة" او "فقه الاجتماع" وهكذا..
علماً ؛ ان هذه العناوين هي امتداد لموسوعة الفقه الضخمة التي خلفها
سماحته التي تبلغ (110) مجلد، وهي تضم بحوث ومناقشات حول الاحكام
الشرعية بشكل مفصّل قلّ نظيره.
ثانياً: قدم سماحته في الجانب الثقافي إضاءات مركزّة حول عديد
القضايا التي تهم الأمة، كأفراد وجماعات، ولم يستثن سماحته في البحث
والدراسة، الطفل والمرأة والعالم والمثقف، كما اشتملت أبعاد البحث على
مسائل الدين والدنيا والاخلاق والسلوك. بما يخيّل الى المتابع أن
سماحته لم يترك أمراً او قضية في المجتمع او ظاهرة جديرة بالمناقشة
والتوجيه بالشكل الصحيح إلا وطرقها وأوسعها بحثاً ومناقشة بحيث يرافق
القارئ الى الاستنتاج الصحيح، فكانت عناوين مثل: "نحو يقظة إسلامية"
و"اللاعنف في الإسلام" و"طريقنا الى الحضارة" و"الحجاب.. الدرع
الواقي"، وغيرها كثير من هذه المؤلفات.
ثالثاً: الجانب الثالث الذي يتّسم بالعملية، صبّ فيه سماحة الإمام
الراحل، جلّ أفكاره ورؤاه في التغيير والإصلاح والبناء على صعيد الفرد
والمجتمع والأمة. هذا الاهتمام يتجلّى لنا في ثلاثة مؤلفات قيمة:
"الصياغة الجديدة" و"السبيل الى إنهاض المسلمين" و"ممارسة التغيير
لإنقاذ المسلمين". وفي مقدمة الكتاب الاخير يبين سماحته بنفسه مشروعه
البحثي في الإطار الحركي – العملي: "... كما يكون بناء مؤسسة أو إدارة
أو مدرسة أو ما أشبه بحاجة إلى ثلاثة أشياء: الأول: العلم بالبناء.
والثاني: الخارطة المهيأة، من أجل البناء. والثالث: التطبيق العملي
الخارجي. كذلك بناء الأمة بحاجة إلى هذه الأمور الثلاثة، وقد كتبنا
كتاب "الصياغة" باعتبار الأمر الأول فإن فيه العلم بالبناء، وكتبنا
كتاب "السبيل" تمهيداً للأمر الثاني، وقراءة خارطة لكيفية بناء العالم
الإسلامي الكبير. أما التطبيق العملي الخارجي فقد كتبنا لأجله "ممارسة
التغيير"، فهذا الكتاب مرقاة ثالثة في هذا السلم ومحاولة للتعرف على
طرق ممارسة التغيير للوصول إلى حكومة ألف وخمسمائة مليون مسلم، بإذن
الله سبحانه..".
ان هذا المشروع البحثي والدراساتي، بدأه سماحة الإمام الراحل في وقت
كانت الأمة منشغلة، بل ومنغمسة في الصراعات السياسية والحروب العبثية
التي شغلت بال المثقفين والعلماء والمفكرين، وهذا ما انعكس على أدبيات
تلك الحقبة، حيث التعبئة والتحشيد والتزلف للحكام، ولا أثر لرؤى
مستقبلية او استشراف للآفاق، بينما كان نصيب الامام الراحل من تلك
الحقبة، الاستخفاف والتهميش ووصف افكاره ورؤاه بالمثالية والمستحيلة.
والغريب حقاً، أن نفس هذه الرؤى والأفكار تثبت صحتها بعد رحيله عن دار
الدنيا، في مقدمتها "اللاعنف" و"شورى المراجع"، وحتى ما يتعلق بالشعائر
الحسينية، التي يقر الكثير من العلماء والمفكرين، بالفضل لسماحته في
دعمه و تطويره وتكريسه في الواقع الاجتماعي والثقافي، ليس فقط في
البلاد الإسلامية، بل في جميع انحاء العالم.
وهذا يدعونا - بالحقيقة - للتوقف ملياً عند هذا المشروع الرائد ،
ومحاولة إثرائه وإحيائه ليستفيد منه الأجيال، وذلك من خلال مراجعة
الأفكار والرؤى وإيجاد تطبيقات واقعية لها، وبالأخص الجانب الثالث الذي
يعالج قضايا تمس الواقع الذي تعيشه الأمة والأزمات التي تواجهها، من
ديكتاتورية وسلب للحريات وفوضى سياسية واجتماعية و انعدام للأمن وغيرها
من الظواهر الشاذة. فالإمام الراحل حمل كل هذه الأفكار والمسؤولية
الثقيلة لوحده، بينما نحن اليوم عبارة عن مراكز دراسات ومؤسسات ثقافية
وشريحة واسعة من المثقفين وعلماء الدين، ممن نعرف قبل غيرنا بأحقية هذه
الافكار في أن تسود الواقع وتكون مصدراً لاتخاذ القرارات المصيرية، ومن
ثم طريقاً للنجاح والتقدم. |