بَعدَ وَفَاةِ رَسُوْلِ اللهِ مُحمَّدٍ(ص)، دَخَلَتْ الأُمَّةُ
الاسْلاميَّةُ، فِي حَالَةٍ مِنْ تَشَتُّتِ الآراءِ، حَوّْلَ
القيَادَةِ المركزيَّةِ، الّتي سَتَتَوَلّى قِيَادَةَ الأُمَّة. وبِلا
شَكٍّ، أَنَّ هذهِ القِيَادَةُ، سَتُمسِكُ بزِمَامِ الجَانبَيّْنِ،
العَقائِديّ والسِياسِيّ، في الدَّولَةِ الاسْلاميَّة. وعَلى هَذا
الأَسَاسِ بَرَزَتْ ثَلاثَةُ اتْجَاهَاتٍ، في مَوّْضُوعِ قِيادَةِ
الأُمَّةِ، بَعدَ غِيابِ الرَّسُولِ(ص)؛ هي:
الاتِّجَاهُ الأَوَّلُ: يَرَى بِأَنَّ القِيَادَةَ بَعدَ رَسُولِ
اللهِ(ص)، تَكونُ فِي الإِمامِ عليٍّ(ع) حَصْراً، لِورُودِ عِدَّةِ
نُصوصٍ قُرآنيَّةٍ، وأَحاديثَ نَبويَّةٍ، أَكَّدَتْ عَلَى هَذا
المَوْضُوع. وهَذا الاتِّجَاهُ، يَعتَقِدُ أَنَّ الإِمَامَةَ، تَجْمَعُ
بَيّْن الجَانِبيّْنِ العَقائِديّ والسِياسِيّ.
(يُمكِنُ لِمَنْ يُريدُ التَّثبُتَ مِنَ هذهِ الحقيقَةِ، مُراجعَةُ
المَصَادِرِ المُختَصَّةِ، فِي هذا المَوّضُوعِ، والّتي اسْتفاضَتْ
بتَقديْمِ الأَدِلَّةِ والبَراهينَ، فِي أَحقيَّةِ الإِمَامِ عَليٍّ
(ع)، بتَبَوّءِ مَقاليدِ قيادَةِ الأُمَّةِ الاسلاميَّةِ، بعدَ رَحيْلِ
الرَّسولِ(ص). ولا أُريْدُ أَنْ أَدخُلَ في تَفاصيلِ هذا المَوّضوعِ،
لكَيْ أُحَقِقَ مَقصَدَ هذا المَقَالِ. لذا أَتْرُكُ للقارئِ الكَريْمِ
التَثبُّتَ، مِن ذلكَ بِنَفسِهِ وليُراجِع: الدليل العقلي على امامة
علي(ع)/ علي الحسيني الميلاني، أزمة الخلافة والامامة/أسعد وحيد قاسم،
رزية الخميس/ مركز الدراسات العقائدية.).
الاتِّجَاهُ الثَّانِي: رَأْى بأَنَّ القِيَادَةَ بَعدَ رَحيلِ
رَسُولِ اللهِ(ص)، قَرَارٌ مَتروكٌ للأُمَّةِ، وكانَ شِعَارُ هذا
الاتّجاهِ (حَسْبُنَا كتابُ اللهِ). وهذا الاتِّجَاهُ، يَعتَقِدُ أَنَّ
الخِلافَةَ والإِمَامَةَ، تَعنِيَانِ إِدارَةَ أُمورِ الدَّوْلَةِ،
وتَصريْفِ شُؤونِها الدُّنْيَويَّةِ، وإِنَّ مُصْطَلَحا الخِلافَةِ
والإِمَامَةِ، لَهُما نَفْسُ المَقْصَدِ المَذْكُوْر.
الاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: رَأْى بأَنْ تَكونَ القِيَادَةُ، فِي
قُرَيّْشٍ، وهذا رأْيُ أَبوسُفيَانَ وحِزْبِهِ، مِن مُسْلِمَةِ
الفَتْحِ، (وهُمْ الأَشْخَاصُ الّذينَ أَسْلَمُوا بَعدَ فَتْحِ
مَكَّةَ)، وكانُوا مِن مُتَعَصِّبي الجَاهِلِيَّة.
وبَعدَ أَخذٍ ورَدٍّ بيّْنَ المُسلميْنَ، استَطاعَ الاتّجاهُ
الثَّاني، أَنْ يَحسِمَ الموقِفَ لِصَالِحِهِ، وبذلكَ أَصبحَ الإِمامُ
عليٌّ(ع)، خَارِجَ دَائِرَةِ سُلْطَةِ الدَّوْلَة. ورُبَّ سَائلٍ
يَسْئَلّ:
هَلّْ الإِمَامُ عَلِيٌ(ع)، تَركَ الحَبْلَ عَلى الغَارِبِ،
باعتبَارِهِ قَدّْ خَسِرَ المَعرَكةَ السِياسِيَّةَ كُلّياً، ولَمْ
يُعْطِ أَيَّ اهتِمامٍ بشُؤونِ الدَّوْلَةِ والأُمَّة؟.
وهلّْ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، تَصَرَّفَ كمَا يَتَصرَّفُ الآخَرونَ،
عِندَما يَخسرونَ فِي مِثْلِ هذهِ المواقِفِ، فَيُحرِقُوْنَ الأَخضَرَ
واليَابِسَ، بِسَبَبِ تَزاحُمِ المَنَافِعِ، وتَصَادُمِ المَصالِحِ
بَيّْنَهُمْ، وبَيّْنَ خُصَمائِهِمْ؟.
الجَوَابُ:
إِنَّ الإِمامَ(ع)، لَمْ يكُنْ صَاحِبَ دُنيَا، يَسعَى لِتَسَنُّمِ
مَناصِبٍ في السُّلطَة. إنَّهُ إِنْسانٌ رِسَاليٌّ، يُريدُ تَطبيقَ
المبادِئِ والقِيَمِ، الّتي أَقَرَّها الاسْلامُ، والّتي آمَنَ بِهَا،
ونَذَرَ نَفسَهُ لَهَا، بإِيمَانٍ رَاسِخٍ لا يَتزَعزَع. فَثَبَتَ
الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، أَمامَ كُلِّ التَّحدِياتِ، بمَنْهَجٍ واضِحٍ،
وخَطٍّ ثابِتٍ، فتَحَطَّمَتْ كُلُّ المُغرَياتِ تَحتَ قَدمَيّْه. قَالَ
الإِمامُ عَلِيٌّ(ع):
(فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى
فِيهِ ثَلْماً أَو هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ
أَعْظَمَ، مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ، الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ
أَيَّامٍ قَلائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ
السَّرَابُ، أَو كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ
الأحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ الدِّينُ
وتَنَهْنَهَ....)(انتهى)(نهج البلاغة).
وعلى عَكسِ مَا قامَ ويَقومُ بهِ، مُحِبو الدُّنيا، فَقَدّْ جَسَّدَ
الإِمامُ عَلِيٌ(ع)، خِلالَ الفَترَةِ الّتي قَضَاهَا مُبْعَداً، عَنْ
تَقَلُّدِ المَسؤوليَّةِ الحُكومِيَّةِ، وهِيَ فَترَةٌ امْتَدَّتْ
زُهَاءَ، خَمسٍ وعِشرينَ سَنَة. علماً أَنَّ أَدْعِياءَ القَوّْمِ
وفَسَدَتِها، مِنَ اللُعَنَاءِ والطُّرَدَاءِ والطُلَقَاءِ، أَمثَالُ
معَاويةَ وعَمْرو بن العَاصِ، ومَروانَ بن الحَكَمِ، والوَليدِ بن
عُقبَةَ وغَيرِهِمْ، تَقَلَّدوا أَرفَعَ المَسؤولِيّاتِ وأَعْلَى
المَناصِب.
ظَلَّ الإِمامُ عَلِيٌ(ع)، فِي هذهِ الفَترَةِ، يُمارِسُ دَوْرَهُ
الإِصلاحِيّ، لِلحفَاظِ عَلى بَيّْضَةِ الإِسلامِ، ووِحْدَةِ
المُسلِمين. قَالَ (ع): (لَقَدْ عَلِمْتُمْ، أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ
بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَاللَّهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ
الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ
خَاصَّةً.....)(انتهى)(نهج البلاغة).
ولِكَيّْ نُسَلِطَ الضَوّْءَ، عَلى بَعضِ اسْهَاماتِ الإِمامِ
عَلِيٍّ(ع)، كمُعارِضٍ رِسَاليٍّ للسُلطَة، كانَ هَمُّهُ الوَحيْدُ
الاصْلاحِ، وهَدَفُهُ الفَريْدُ تَحقيْقِ العَدالَةِ الاجْتِماعيَّةِ،
في كُلِّ جَوانِبِها. وفِيْمَا يَلي النُّزرُ القَليْلُ مِنْها:
1. فِي حَادِثَةِ سَقِيْفَةِ بَني سَاعِدَةَ، نَشَطَ أَبو سُفيانَ
وعَمْرو بن العاصِ، وسُهيْلُ بن عَمْرو، والحارثُ بن هِشَامٍ، وعكرمَةُ
بن أَبي جَهلٍ، وآخرونَ، لزَرعِ الفِتنَةِ بيّْنَ المُهاجرينَ
والأَنصَارِ، لغَرَضِ خَلْطِ الأَوراقِ، واستِثمارِ حالَةِ التَّنافُسِ
بيّْنَ القَوّْمِ. معَ تَشَتُّتِ الآراءِ والأَهواءِ، للحُصولِ عَلى
مَوقِفٍ، يَرفَعُ شَأْنَ رِجالِ الجَاهليَّةِ، الّذينَ أَسْلَموا بَعدَ
فَتحِ مَكَّةَ، فِي العِشرِينَ مِن شَهرِ رَمَضانَ، فِي العَامِ
الثَّامِنِ الهِجْري.
لكِنَّ الإمامَ عَلِيّاً(ع)، قَطَعَ الطَّريقَ عَليهم، فَخَاطَبَ(ع)
النَّاسَ بقَوّْلِه:
(يا معشرَ قُريشٍ إِنَّ حُبَّ الأَنصارِ إِيمانٌ، وبُغضُهُم نِفاقٌ،
وقَدّْ قَضوا مَا عَلَيّْهِمْ، وبَقِيَ مَا عَلَيّكُمْ.... قَدِمْنا
عَلَيهِمِ دَارَهُمْ، فَقَاسَمُوْنا الأَمْوالَ، وكَفُونَا العَمَلَ
فَصِرنا مِنْهُمْ، بيّْن بَذلِ الغَنِيّ، وإِيثَارِ الفَقيْرِ، ثُمَّ
حارَبَنَا النَّاسُ، فَوَقُوْنا بأَنفُسِهِم.........)(انتهى)(شرح نهج
البلاغة لإبنِ أَبي الحديد).
بهذا المَوقِفِ الرِسَالِيّ المَسْؤوْلِ، حَقَّقَ الإِمامُ
عَلِيٌّ(ع)، جُمْلَةً مِنَ الأَهدَافِ، سَأتَناوَلُ بَعضَها، في
الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ، مِنْ هَذا المَقالِ، إِنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالى. كما سَأُبَيّْنُ بَعضَاً، مِنْ مَواقِفِهِ الايْجابِيَّةِ
والبَنَّاءَةِ، الّتي مَارَسَها عَمَلِيّاً، لِحِفْظِ كِيَانِ
الاسْلامِ الحَنِيْفِ. والتّي بهَا كَشَفَ الإِمامُ(ع)، عَن الرُّوْحِ
العَقَائِديَّةِ الّتي، بهَا اسْتَقامَتْ أُمُورِ المُسْلِميْن.
لَقَدّْ طَبَّقَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، السُّلُوكِيَّةَ
الرِّسَالِيَّةَ، الّتي مَارَسَها مَعَ مُؤَيدِيْهِ ومُخَالِفِيْهِ،
عَلى حَدٍّ سَوَاءٍ، مِنْ أَجْلِ المُحَافَظَةِ، عَلى وجُوْدِ
الأُمَّةِ الاسْلامِيَّةِ، بالرَّغْمِ مِن إِقْصَائِهِ(ع)، خَارِجَ
نِطاقِ مَسْؤوْلِيَّةِ الحُكْم، مُتَبَنِيَاً شِعَارَ: (لأسْلِمَنَّ
مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ).
* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي
Mjsunbah1@gmail.com |