شبكة النبأ: يفترض الدعاء مساحة
منفردة للداعي، وكلمات هامسة، وحتى في حدود الصلاة كشعيرة جمعية كصلاة
(الجماعة) بمواقيتها اليومية او الفصلية، (الصلوات الخمس – العيدين)
هناك مساحة منفردة يسعى اليها الداعي بعيدا عن الاخرين المجاورين له،
ومع ارتفاع الاصوات في الادعية الجماعية التي تفرضها مثل تلك الصلوات،
ايضا يسعى الداعي الى ان يكون هامسا في بعض الاجزاء من دعائه.
المساحة المنفردة التي اتحدث عنها في المثال اعلاه، هي في حقيقتها
نوع من التواصل الفردي عبر الجماعة مع الله سبحانه وتعالى، وهو تواصل
يشعر الداعي بقوة خاصة نتيجة هذا الجمع تسري اليه منهم، ويعطيه حماسة
في فعل التواصل.
ماذا عن الدعاء منفردا؟، مع تعدد الفضاءات (مسجد – حسينية – مرقد –
مزار – مكان منعزل في ركن البيت) او اي فضاء اخر يجد الإنسان فيه نفسه؟.
شعوران يحس بهما الانسان في تلك اللحظة، لحظة الانفراد للقاء،
الانكسار والانتصار..
انكسار فردي، ليس بمعنى الهزيمة او بمعنى الاحباط، او بمعنى الذل،
انه انكسار من نوع اخر، الضعف الانساني امام قوة جبارة غير متناهية،
خالدة، لكنها بالمقابل رحيمة، او هي شديدة الرحمة..
وهو انتصار يستشعره هذا المنكسر امام تلك القوة الرحيمة، انه انتصار
على نفسه، وعلى ذاته، وعلى روحه، انها لحظة تحرر مطلق، هذا هو انتصاره.
والدعاء في اي فضاءات تحرك فيها، فهو منعزل عن لحظته الراهنة الا
بمقدار انطلاقه فيها، انه يقترن بالقادم من اللحظات، والقادم من رحم
الغيب والمستقبل. ولا يقترن الدعاء بالماضي، لان الماضي لحظة رحلت
وانقضت، ولا يمكن العودة اليها.
على العكس من الاستغفار او التوبة، والتي تقترن بالماضي، وتقرن
المستقبل تأسيسا على ما يتحقق منها، وهو تحقق غير ملموس الا في عوالم
اخرى، حيث الجنة والنار.
في كتابه (الامام زين العابدين قدوة الصالحين) يفرد المرجع الديني
الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) صفحات كثيرة للدعاء
وفلسفته، من خلال سيرة الامام زين العابدين (عليه السلام) وهو ينتقل
عبر اكثر من موضع في الصحيفة السجادية والتي هي عبارة عن ادعية
ومناجيات متنوعة الاغراض والمضامين، وهي ثروة في مجالها ودلالاتها
الروحية والمعنوية.
الدعاء والضراعة الى الله عز وجل كما يكتب الامام الشيرازي، (يوجب
تقوية روح الإنسان)، وهي الروح التي تستشعر ضعفها وبؤسها وحاجتها في كل
لحظة من لحظاتها، وتحتاج الى رافعة من قوة تنهض بهذا الضعف وترفعه الى
مصاف القوة المطلوبة للكد والكفاح وممواجهة الواقع ومشاكل الحياة.
وهي تقوية من خلال طلب المعونة من (القوي – القادر – المقتدر)
لمساعدة من يدعوه، وهو عبده الضعيف والمحتاج الى معونته.
طلب المعونة من الله على ثلاثة اشكال كما يذكر الشيرازي الراحل:
قضاء الحوائج.
تسهيل أمور الدين والدنيا.
غفران الذنوب بعد الموت في الآخرة.
ما هي فلسفة الدعاء؟
يضرب الامام الراحل مثلا لشرح تلك الفلسفة:
إذا شاءت إرادة الله شفاء المريض، فعندئذ لا حاجة إلى الدعاء، وإذا
لم تشأ الإرادة الإلهية ذلك فلا أثر للدعاء حينئذ، فما هي فلسفة
الدعاء؟.
المسألة لا تنحصر في الحالتين المذكورتين، بل قد تتعلق إرادة الله
تعالى بواحدة من الحالات أدناه.. فمثلاً بالنسبة إلى المريض:
1ـ أحياناً تشاء إرادة الله تعالى شفاء المريض من دون دعاء.
2ـ وأحياناً تشاء إرادة الله تعالى بحيث إذا دعا المريض تحسنت حالته
وشوفي، وإذا لم يدع لا يشفى.
3ـ أحياناً تشاء إرادة الله تعالى عدم شفاء المريض حتى بالدعاء وذلك
لمصلحة يراها الباري عزّ وجلّ.
لماذا لا يستجاب الدعاء؟.
هذا التساؤل كثيرا مايطرحه الناس على انفسهم او على الاخرين، وتختلف
البواعث والنوايا للمتسائلين، فمنهم من يطرحه من باب التشكيك باهمية
الدعاء، ومنهم من يطرحه لضعف في اعتقاد الاجابة، ومنهم من يطرحه من باب
اليأس، الى غير ذلك.
يقارب الامام الشيرازي الجواب من خلال المثل نفسه، وهو المرض
والدواء.
وهو يطرح التساؤل بهذه الصيغة: ومما يسأله البعض أيضاً انه لماذا لا
يستجاب الدعاء؟.
ويجيب بسؤال اخر: لماذا لا ينفع الدواء؟.
يواصل الامام الراحل جوابه على لالتساؤل من خلال الشرح التالي:
إن الله سبحانه جعل للأمراض الدواء، وجعل لبعض الأمراض والمقاصد
الدعاء، وكل واحد منهما في الجملة، لا على نحو الكلية، إذ الأمر دائر
بين الثلاث:
الأول: عدم الجعل مطلقا.
والثاني: الجعل مطلقا.
والثالث: الجعل في الجملة.
فالأول لا صحة له، لأنه نقص في الخلقة، فكل شيء قابل للخلقة وليس
فيه محذور وجب أن يخلق، لأنه مقتضى الفياضية المطلقة منه سبحانه.
والثاني: لا صحة له، وإلا لزم خلاف الحكمة، إذ بذلك تتغير الدنيا عن
كونها دنيا هكذا، بل تكون جنة، والمفروض أن الدنيا بهذه الكيفية نوع من
الخلقة التي تتطلب الخلق بلسان الواقع، والفياض يخلق كل شيء فيه الحكمة
بأن لم يكن فيه محذور.
فيبقى الثالث.
فلا يقال: ما أكثر ما يشفي الدواء؟
لأنه يقال: وما أكثر ما استجيب الدعاء، فإن أحدنا يذكر انه دعا
للدين، والفقر، والمرض، والولد، والعدو، وألف شيء وشيء واستجيب، نعم لا
يستجاب الكل.
كما استعمل الدواء لعشرات الأمراض وشوفي، نعم ليس كل مرض يعالج
بالدواء، وإلا لم يكن هناك مرض وموت وهرم وعقم ونقص خلقة وغيرها.
فالدعاء من الأسباب الكونية المعنوية، كالدواء، لا يصيب كله ولا
يخيب كله، كسائر الأسباب والمسببات التي ليست علة تامة، وإنما لها
شرائط وموانع ومعدات وقواطع، إلى غير ذلك.
والدعاء حسب الامام الشيرازي هو (الامل القاطع) كما يصفه بذلك في
كتابه (مستقبل العراق بين الدعاء والعمل): (فإذا توجه الإنسان إلى الله
تعالى بأمل قاطع لا يشوبه الشك أو التردد فإن الله سوف لن يرده عن
رحمته الواسعة بل يستجيب له ويعطيه سؤله). |