بعد استشهاد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان وصي الرسول
وخليفته الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) قد استلم مهام خلافة
النبي (الصلاة والسلام عليه)، فمنذ ذلك اليوم لرحيل المصطفى بدأت حياكة
المؤامرات ضد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبطبيعة الحال فأن الامام
علي عاصر هموم الدعوة الاسلامية وآلامها واكتوى بنارها في حياة رسول
الله (صلى الله عليه واله وسلم)، الا ان تلك الهموم والالام لم تنتهي،
ففي فترة الاستشهاد ظهرت السقيفة التي كان هدفها اعلان اسلام مشوه،
فأثمرت نتائج السقيفة بالخروج عن الخط النبوي الواضح الصحيح الصريح،
فكان هم من حضرها واعدها للسيطرة على كرسي الخلافة مما ادى الى انحراف
خطير وهدر لبيت مال المسلمين، فثالث خليفة من خلفاء السقيفة ولى معاوية
بن ابي سفيان على الشام، والاخير كان من دعاة الانحراف.
ان امير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) كان يعيش تلك المرحلة
همومها ومشاكلها وآلامها ليجعل الرسالة الاسلامية كما اوصى بها النبي (صلوات
الله عليه واله وسلم) بعيدة عن الطغيان والانحراف والتجبر.
وعندما جاء دور الامام علي (عليه السلام) لاستلام الخلافة لم يكن
استلام هذه المهمة في حالة اعتيادية بل في اعقاب ثورة ليعيد الامة
الاسلامية إلى سيرها الطبيعي، فكان امل المسلمين لتحقيق وتطبيق الشريعة
الاسلامية السماوية بكل تفاصيلها، فكانت العدالة الاجتماعية والمساواة
والانصاف والتغيير من سمات حكم وصي النبي (الصلاة والسلام عليه).
وهنا ادرك بعض المسلمين الواعين بان ثورة ومعركة الامام علي (عليه
السلام) ليس من اجل نزاع شخصي او من اجل السيطرة على سلطة، وانما هي
معركة بين الإسلام والجاهلية، بمعنى واقع معركة بين رسول الله (صلى
الله عليه واله وسلم) وبين الجاهلية كما في معركة بدر واُحد.
وهذا لايروق للمنحرفين فمن جانب اخذ معاوية يحوك المؤامرات ويحدث
الاضطرابات في الولايات الاسلامية، وفعله هذا يريد منه بقاءه والياً
على الشام، والامام علي (عليه السلام) لايقبل ان يساومه أي احد على
حساب الاسلام، فكان خطه السياسي مستمر في رفض كل مساومة ومعاملة من هذا
القبيل، فبقاء معاوية واليا يعني استمرار الانحراف ونهب ثروات المسلمين
التابعة لبيت مالهم الذي هو حق لكل مسلم، فعمد معاوية لمساعدة كل عدو
ضد خليفة المسلمين.
ومن الذين كانت لهم اليد الطولى لمظاهر الانحراف (فئة الخوارج)
الذين تنبأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بظهورهم حيث وصفهم قائلا:
(قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يتلون القرآن لا
يتجاوز تراقيهم)، وأطلق عليهم لقب الجباه السود لكثرة سجودهم)(1).
وهؤلاء الخوارج لايريدون قيام مجتمع اسلامي صحيح، فعملوا معسكر
منفصل عن الدولة الاسلامية الأم، ليخرق جسد المجتمع الاسلامي، فهذه
الفئة المرتدة قضى عليها الامام في النهروان وظلت بقاياها امثال عبد
الرحمن بن ملجم المرادي الذي نفذ عملية اغتيال الامام في 19 شهر رمضان
40ﻫ، وقت صلاة نافلة الفجر، محراب مسجد الكوفة.
وبعد جهاد الدفاع عن الاسلام والشريعة من قبل امير المؤمنين (عليه
السلام) نطق الامام كلمة كان ينتظرها منذ زمن فقال ((فزت ورب الكعبة)).
وبعد ان اصيب الامام (عليه السلام) أُدخل ابن ملجم على الإمام علي
(عليه السلام) وهو مكتوف، فقال الإمام(عليه السلام): «أي عدوّ الله،
ألم أحسن إليك»؟
قال: بلى.
فقال (عليه السلام): «فما حملك على هذا»؟
قال ابن ملجم: شحذته أربعين صباحاً ـ يقصد بذلك سيفه ـ وسألت الله
أن يقتل به شرّ خلقه.
فقال (عليه السلام): «لا أراك إلّا مقتولاً به، ولا أراك إلّا من
شرِّ خلق الله»(2).
ثمّ قال (عليه السلام): «النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني،
وإن بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء
المسلمين، تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلنّ إلّا قاتلي انظر
يا حسن، إذا أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثّلنّ
بالرجل، فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم
والمُثلة، ولو بالكلب العقور»(3).
وترك أمير المؤمنين (عليه السلام) جملة وصايا قبل رحيله ولقاءه
بالله عزوجل، فمنها هذه الوصية العامة :ـ
خاطب في هذه الوصية الامامان الحسن والحسين (عليهما السلام) وأهل
بيته وأجيال الأُمّة الإسلامية في المستقبل: «أوصيكما بتقوى الله،
وألاّ تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زُوي عنكما،
وقولا بالحقّ، واعملا للأجر، كونا للظالم خَصماً، وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونَظم
أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكما (صلى الله عليه وآله) يقول:
صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام.
الله الله في الأيتام، فلا تُغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم.
الله الله في جيرانكم، فإنّهم وصية نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى
ظننّا أنّه سيورثهم.
الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.
الله الله في الصلاة، فإنّها عمود دينكم.
الله الله في بيت ربّكم، لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم
تناظروا.
الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله.
وعليكم بالتواصل والتباذل، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيُولّى عليكم أشراركم، ثمّ تدعون
فلا يستجاب لكم»(4).
فالسلام على امير المؤمنين علي بن ابي طالب يوم ولد ويوم استشهد
ويوم يبعث حيا.. اللهم احشرنا معه واجعلنا من شيعته والمترسمين خطاه
بحق محمد واله الطيبين الطاهرين.
...........................................
الهوامش
(1) الحسني، سيرة الرسول وخلفائه، 7 | 196.
(2) تاريخ الطبري 4/111، الكامل في التاريخ 3/390.
(3) الكامل في التاريخ 3/390.
(4) شرح نهج البلاغة 17/6. |