أنواع الصوم وفلسفته

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

اشتقاق رمضان

إنّ كلمة (رمضان) مشتقة من (الرمض) بمعنى الهاجرة ـ كما يقول أهل اللغة...

ولكن هناك عدداً من الأحاديث، تؤكد: أنَّ (رمضان) من أسماء الله وسمي هذا الشهر، بـ (شهر رمضان) لاختصاصه بالله، كما يقال: (شهر الله)... ولذلك كره إلينا أنْ نقول (رمضان) بل اللازم أنْ نقول أبداً: (شهر رمضان)...

فعن سعد قال: (كنّا عند أبي جعفر عليه السلام، فذكرنا رمضان، فقال: لا تقولوا: هذا رمضان، ولا ذهب رمضان، ولا جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله عز ّوجلّ، لا يجيء ولا يذهب، وإنَّما يجيء ويذهب الزايل، ولكن قولوا: شهر رمضان، فالشهر مضاف إلى الاسم والاسم اسم الله عز ّوجلّ...).

وعن عليٍ (عليه السلام): (لا تقولوا: رمضان، فإنكم لا تدرون ما رمضان... ولكن قولوا: شهر رمضان، كما قال الله عز ّوجلّ: شهر رمضان).

ولكن الرأي الفقهي على أنَّ هذه الاطلاقات مكروهة فحسب، فهذا هو النتاج المستخلص منها ومن بقية النصوص، بعد التقييم والتفاعل...

فقه رمضان

وقبل أنْ نبحث عن (فلسفة الصيام) يجدر بنا أنْ نستكنه (فلسفة رمضان) ولا نغلق أذهاننا عن (فقه رمضان) ورسالته وأهدافه، فمن التطرف أنْ نستجيب له كشهر فرض فيه الصيام، ولا أكثر... بل هو شهر آثره الله تعالى بالصيام، دون سائر الشهور، ولا يتحقق الأثر، إلاّ لمسبقات جعلته جديراً بهذا الفضل المعكوف...

فما هي تلك الخصاصات، التي أولته الأسبقية، وجعلت منه سيّد الشهور، والشهر المبارك؟!!.

حقيقة الصوم

الكيان الإنساني ـ بحكم فطرته التي فطرهُ الله عليها ـ وحدة... تشمل الجثمان والروح... تشمل (المادة) و(اللامادة)..

فهو مؤلف من قبضة من التراب، تتمثل فيها عناصر الأرض، من حديد، ونحاس، وكالسيوم، وفوسفور، وأوكسجين، وهيدروجين... لتشيع فيه شهوات الأرض، ورغبات النفس، ونزوات الحسِّ الغليظ...

... ونفحة من روح الله، تنبعث منها سبحات العقل، وتأملات الفكر، ورفرفات الروح...

والعجيبة في هذا الكيان البشري، أنَّ ذلك الشتات النافر المنتثر، قد اجتمع وترابط وتوحد، وأصبح أكبر قوة على الأرض! ذاك حين تقتبس الذّرة المجهولة، من قوة الأزل السافرة، فتشتعل وتتوهج، وتنبثق طليقة جاثمة، تمتزج فيها المادة، واللامادة، فهما سواء...

وفي ذات الوقت يحتفظ، كلَّ باستقلاله وإشاءاته ورغباته... وينشب الصراع الحامي الطويل، فأيهما انتصر، ملك قياد الفرد، وسرى عليه نفوذه وسلطانه...

فالجسم المادي، مركب من البسائط الأرضية، وخاضع لأحكامها، فهو لا شيء غير مادة عضُوية، مركبة من خلايا تشبه خلايا الحيوان والنبات... وبحكم فطرته المركبة، سائر إلى الاستحالة، والانحلال، إلى أجزائه البسيطة السابقة... وأما الروح المشرقة، فليست مركبة من بسائط أولية، حتى يحكم عليها بالاستحالة إلى تلك البسائط، بل هي باقية أبدية...

ولكلٍ من الجثمان والروح، مطالب تناسب طبيعته، ودرجته في مراتب الوجود، فالجثمان لا يفترق عن بقية أنواع المادة، في قبوله للزيادة والنقص والقوة الضعف، والتحلل والتركيب... ومن أجل ذلك، فهو محتاج إلى مقوّمات تقومه من نوعه، كالغذاء والكساء والسكن... ولكن الروح ـ بطبيعته العلوية النيرة ـ لا تطلب المقومات العنصرية، وإنّما هي تواقة إلى الشرف والكمال، للإلمام بأسرار الملكوت، والتطلّع على ما وراء الطبيعة...

وإذا كانت الروح تنزع إلى الكمال والارتقاء ـ والتجربة الإنسانية الصاعدة، دلت على مقدرتها على التحلق والارتقاء ـ فما الذي يصد بعض النّاس عن التطلّع إلى الكرامة الإنسانية، ويدحضهم في المجاهل والمزالق، ليتسفلوا متخبطين؟! نعم... إنّ الجسم بشهواته ونزواته، الذي يسجن الروح الشفافة عن التوثب والانطلاق... لأنَّ الجسم والروح ثقلان متأرجحان، ككفتي ميزان، لا تثقل هذه إلاّ وتخف الأخرى، ولا ترجح تلك إلاّ بمقدار ما تبخس هذه...

ولذلك نجد في النّاس من غلبت عليه مادته، فوهب نفسه لها، لا يفكر إلاّ في إشباع شهواته، كيفما أمكن ذلك الإشباع، فهزلت روحه، وتضاءلت منكودة حاسرة... ومنهم من محض للروح، فسمت وتعالت، بينما انهدت قواه وتكسر كيانه...

فأيُّ الطرفين قد أصاب الحقيقة، وأحرز النجاح الإنساني المنشود؟ لا جرم أنَّ كليهما قد أخطأ الواقع!... فأما من تطوّع للجثمان، وجرى في أعقاب الشهوات، فقد خنق إنسانيته، ولم يزد على بهيمة وحش... وأما من انقاد للروح، فقد هضم حقوق جثمانه، وعطل نظام الكون، ويكون أشبه بمن دخل حديقة غناء، ليستغلها وينعم بها، فتوّرع عنها، حتى صوحت أزهارها، واقتلحت قاعاً صفصفاً تأويها الحشرات والديدان...

إذن فعلينا أنْ نلتمس حاجات الروح والجثمان، فنعدل بينهما، ونوفيهما حقوقهما العادلة.

* * * * *

وإذا كان الجسم يحتاج إلى نظام الصحة، في استيفاء سعادته، فكذلك الروح، تحتاج إلى نظام الدين، في استيفاء نموها الطبيعي، ورشدها المأمول، والظفر بالأماني التي تشرئب إليها...

والصيام من سنن الدين، التي تعمل لتكييف الروح... وهو للروح كالرياضة السنوية للجسم، فكما أنَّ قانون الصحة، يُحتّم على كل عامل ـ يريد حفظ صحته ـ أن يريض نفسه شهراً كاملاً في السنة، يقلل فيه من غذاء النفس (أي العمل على الحقول الفكرية)... كذلك نظام الصحة الروحية، يفرض على كل إنسان، أن يقلل شهراً في السنة من غذاء جثمانه...

ولما كانت بينة أطباء الأجسام، في ضرورة الإقلال من تغذية النفس، شهراً كل عام، هي لزوم تعويض ما فقده الجسم، من القوة، مدى الأحد عشر شهراً، نتيجة الانهماك الفكري... كذلك حجة أطباء الأرواح، في القصد من الطعام مدى شهر كل سنة، هي تعويض ما فقدته الروح الإنسانية من جراء تفرغ الإنسان، للماديات طوال العام...

وليس الهدف من هذه التحديدات، إلاّ حصول الموازنة، بين الروح والجسد، وعدم غمط حقوق تلك، للتوفير على هذا، أو إهمال هذا لتشجيع تلك... كيما يعيش الإنسان كاملاً معتدلاً، في مناخ قانوني، يسنح لروحه وجسمه معاً، أنْ يُعبّرا عن سجيتهما، ويبلغا أقصى مدى إمكانات النبوغ والرشد فيهما...

ذلك، كان مشهداً من تصارع الجسد والروح، وكانت حكمة الصيام فيه بالغة...

هناك قوى أخرى تتصارع في الإنسان، لا بد من إنصافها في نفسها، وللصيام في معاركها إصبع، بل مسند القضاء...

... لأنَّ الإنسان جسد وروح يتصارعان... وشهوة وعقل لا يفتأ بينهما الصراع، غير أن الشهوة تتشيع للجسد، والعقل يتشيع للروح، فالجسد والشهوة معاً في جانب، والروح والعقل معاً في جانب، ومجال الصراع هو الإنسان...

فكما أنَّ الجسد يحتاج إلى الغذاء العنصري، كذلك الشهوة تحتاج إلى الغذاء الجنسي... ولكنهما ينطلقان من نقطة واحدة، فمتى شبع البطن تحركت الغريزة لترتوي، وكلما سكنت الغريزة هدأ الجسد...

فلذلك كان لا بد أن تسكن الغريزة ويهدأ الجسد، ليتحرك العقل وتنشط الروح... ومن أجل هذه الحقيقة، كان الصوم أجدى وسائل تربية العقل والروح معاً... أو لا ترى كيف يمنع بصرامة، تحركات الغريزة والجسد معاً، ويجعل لهما كفارة سواء...

* * * * *

ومن هنا كان الصوم، ركناً هاماً من أركان الدين... وهو الركن الذي يجمع بين واجب التعبد، وبين ترويض الجسد والغريزة، مما حل لهما المتاع به، في فترات دقيقة رتيبة، ليستريحان بين الحين والحين، وينشط العقل والروح...

وهنا تكمن عبقرية الإسلام، فليس هو دين دنيا فقط، ولا دين آخرة فحسب... بل هو دين الحياة بجملتها الشكلية والزمنية... دين العالمين، من يوم خلق الله الكون إلى أن تنتهي الحياة، كمّا عبر عن هذا الواقع سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم). (ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، بل خيركم من أخذ من هذه وهذه).

* * * * *

وإذا حق ذلك، ظهر أنَّ الصوم سُنّة البشرية، وجزء صميم من نظام الكون الذي يجب أن يعيش أبداً إلى جانب الخبز والماء، وأنْ يعيشه الإنسان، كما يعيش البطن والجنس، وما دام له عقل وروح، فهو من الحاجات الأساسية الضرورية للإنسان، وليس من الأحكام الموقوتة، التي تفرض لاستجابة فترة زمنية، حتى يلغيه التطوّر، كما يظن بعض الهائمين مع الأهواء، وكما فعل عبد العزيز الجايط مفتي تونس: إذ تنازل إلى رغبات (بورقيبة) رئيس الحكومة التونسية فأفتى (بإلغاء صيام شهر رمضان، إذا تعارض مع تطوّر البلاد، وعدم صيام الشبان، الذين يجب عليم أن يغذوا أنفسهم، للمحافظة على صحتهم).

وإنّما هو سنّة ثابتة على الدهر، لا يتطوّر أبداً، ما دام الإنسان والكون وما دامت الحياة، عدا الحالات الاستثنائية، التي نص الشرع على استثنائها من أول يوم...

الصوم في سائر الشرائع

ولذلك كان الصوم ركناً في جميع الأديان السماوية، وأشباه الأديان، وحتى في الشرائع الوثنية، فقد كان قدماء المصريين، والإغريق، والرومان، وسكان ما بين النهرين في العراق، يصومون أياماً مختلفة في العام...

وقد روي أنَّ نوحاً (عليه السلام)، صام، عندما جنحت به سفينته إلى البر، غبّ أن عصف به الطوفان، مائة وخمسين يوماً...

ومعروف أنّ موسى بن عمران (عليه السلام)، كان يصوم ثلاثين يوماً كل عام، وكان للعبريين صوم خاص يؤدونه، غير أنَّ اليهود، جعلوا يصومون يوماً واحداً في العام، هو يوم عاشوراء، ابتهاجاً بنجاة بني إسرائيل من الغرق، في البحر الأحمر...

وأما النصارى فأشهر صومهم وأقدمه، هو الصوم الكبير، الذي يقال إنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام)، كان يصومه... وقد ابتدع رجال الكنيسة ضروباً أخرى من الصوم، يباشروها الآن...

وتصوم أصحاب الديانات والملل والنحل الحية اليوم، مدداً مختلفة، لها مواعيدها وطقوسها الخاصة...

وقد صامت مريم بنت عمران، ويحيى بن زكريا، صوم الصمت، وقد تحدث القرآن عن صوم الأولى فقال: ((... فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا...))... وأنبأ عن الآخر فقال: ((... قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا...)).

أنواع الصوم

إنَّ إيقاف النفوس دون ما تهواه، من أصعب الأشياء، فإذا تعودت النفس شيئاً، لا تستطيع مفارقته إلاّ بشق الأنفس. ولهذه الحقيقة، تأخر فرض الصيام إلى ما بعد (الهجرة) حيث تركز الإسلام وشع في النفوس، ففرض الله الصيام في السنة الثانية من (الهجرة)، ولما توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان المسلمون قد صاموا تسع سنين.

وكانت الآيات التالية، أول نداء فرض الصوم على المسلمين:

((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ... الخ...)).

وفي نفس الآيات، التي أمرت بالصيام، نص القرآن على وضعه عن طائفتين، هما المرضى والمسافرون، على شرط أن يلافوه في بقية أيام السنة، فالله تعالى يريد الصوم شهراً في كل عام، ولكنه يريد اليمن ولا يريد العسر، فإن اعترضه مرض أو سفر، فلا بأس بتركه إلى فرصة أخرى، فالمريض إذا برء من مرضه، والمسافر إذا استقر في بلده ـ أو أي بلد ينوي فيه الإقامة ـ وجب عليهما إعادة الأيام، التي أفطروا فيها.

* * * * *

وتنص آيات الصوم، على أنَّ الله فرض الصوم على المسلمين، كما فرضه على الأمم السابقة، لأهميته القصوى، في التربية الجسمية والعقلية والروحية، ولأنّه يؤكد صلة العبد بربه.

وعصب الصوم، كفّ النفس عما تشتهيه، وكانت الأمم السابقة، تكفّ عن ألوان خاصة من الطعام، كما كانت تكف عن الكلام فترة من الزمان، على ما أمر الله زكريا بقوله: ((... آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً...)) وعلى ما أوصى عيسى بن مريم أمه بقوله: ((فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)).

وجاء الصوم في الإسلام، أسمى وأكمل منه في بقية الشرائع بحيث يلائم علاج الأبدان والأرواح، ففيه كف الجسم عن الطعام والشراب، فترة معقولة من اليوم، لأمد محدود من العام، فيه كف الشهوات عن مباشرة نزعاتها. ويستحب أن يرافقه، كف اللسان عن اللغو والإثم. وكف النفس عن كل رغبة منكرة، ومثل هذا الإمساك العام، جدير بتطوير البدن والروح.

بينما يكون الإمساك عن اللحم والقمح، مثلاً ـ وإنْ كان ينفع لتخفيف الوطئة عن المعدة، وإتاحة الفرصة للأجهزة الهاضمة، حتى تستهلك الرواسب المتكلسة عليها ـ إلاّ أنّه لا يغني لتطهير الجسم كله، من كافة الزوائد والفضول، فما دامت المعدة ممتلئة بالطعام، تبقى مرهقة تنقص العمر وتفسد الصحة، وإنْ لم يكون فيها لحم ولا قمح. فالعلاج الكامل هو الإمساك عن جميع ألوان الطعام والشراب، حتى تستهلك الأجهزة الهاضمة كافة الزوائد والفضول، وتأخذ نصيبها من الراحة، لاستعادة عملها بقوة ونشاط، وكذلك الكفّ عن مطلق الكلام ـ فإنّه وإنْ كان لا ينفع لتحديد اللغو والآثام، التي يقترفها اللسان ـ إلاّ أنّه لا مبرر لكف اللسان، عن التفاهمات البريئة والمعاملات النبيلة، أليس الكسب عبادة؟ وليس الإصلاح بين النّاس معروفاً، ألسنا نعرف ـ بالضبط ـ الظروف والعوامل، التي أدت إلى شرع هذين النوعين من الصوم، وهما الصوم عن بعض ألوان الطعام والصوم عن الكلام ـ صوم الصمت ـ ومن الطبيعي أنْ تكون لهما حكمة بالغة، ما دام الله سبحانه تعالى هو الذي شرعهما في الإسلام ـ أفضل وأكمل، فإنّه يمنع عن خصوص الجريمة، ولا يلجم اللسان كله، لأنّه قد ينطق بالجريمة، فيمنع الصائم ـ بل وغير الصائم أيضاً، غير أنّه يؤكد المنع بالنسبة إلى الصائم ـ عن اللغو والآثام، ويطلق لسانه في الكلام المباح، بل نهى عن ترك الكلام كله، لأنه يؤدي إلى تجميد الحياة فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): (حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل). وقد وصف الله المؤمنين، بأنَّهم طاهروا اللسان أبداً، سواءٌ في أحيان الصيام وغير أوقات الصيام فقال: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)). ((وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)) ونبّه المسلمين، إلى أنْ للأقوال مسؤولية مثل ما تكون للأفعال مسؤولية، حتى لا يستهين أحد بما يقول، فقال: ((ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) وأضاف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت). وأكد قائلاً: (من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن له الجنّة).

* * * * *

ولا بد أنْ يكف الإنسان، جوارحه جميعاً ـ عن المحارم، حتى يتحقق له الصيام، فإنَّ حاله ـ كحالة الصلاة ـ حالة تقرب إلى الله تعالى، فكما أنَّ ثواب الحسنات يضاعف فيها، كذلك عقاب السيئات، قد يضاعف فيها، وربما يسري الخلل منها إلى نفس الصوم، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه). ثم أصدر التعليم، الذي يجب أنْ يتبناه الصائم عندما قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل إني صائم).

ولمّا كان الصوم، تزكية للنفوس، وتطهيراً من الآثام، جعله كفارة لبعض الذنوب فمن ترك الحلق في الحج، ((فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ)) ومن لم يتيسر له الهدي، ((فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)) ومن حلف على أمر، ثم حنث، ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ)). من قتل مؤمناً، فعليه إطعام ستين مسكيناً، وعتق رقبة، وصوم شهرين متتابعين، كما قال عز ّوجلّ: ((وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)). ومن ظاهر زوجته، ثم أراد أنْ يرجع إليها، كان عليه تحرير رقبة، فإنّ لم يقدر، فصام شهرين، كما قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)) ومن قتل الصيد محرماً، كان عليه إحدى الخصال الثلاث وهي الهدي، والإطعام، والصيام، على ما نص الذكر الحكيم في قوله: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)).

هذه هي الموارد، التي نص القرآن الكريم، على أنَّ الصيام فيها كفارة عن الذنب، وفي الفقه، موارد أخر، يقع الصيام فيها كفارة، إما ابتداءاً وإما بدلاً.

* * * * *

وهناك صوم تطوعي، حثّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل صوم ثلاث أيام من كل شهر، فقد ورد في الحديث: إنّه يعادل صوم الدهر، ويذهب بوحر الصدر، ومثل صوم (الأيام البيض) من كل شهر، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، ومثل صوم يوم مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المصادف لليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول.

ومثل صوم يوم الغدير، المصادف لليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، ومثل صوم يوم مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ومثل صوم يوم (دحو الأرض) من تحت الكعبة المقدسة، وهو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام.

وصوم يوم (عرفة) وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام، ومثل صوم يوم المباهلة وهو يوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام.

ومثل صوم اليوم الأول من شهر ذي الحجة الحرام، وأفضل منه صوم التسع الأول منه، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (من صام أول يوم من العشر: عشر ذي الحجة، كتب الله له صوم ثمانين شهراً، فإن صام التسع، كتب الله له صوم الدهر). ومثل صوم التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام، ومثل صوم اليوم الرابع إلى اليوم التاسع من شهر شوال، ومثل صوم النصف، من شهر جمادى الأول. ومثل صوم اليوم الأول والثالث والسابع من شهر محرم الحرام.

ومثل صوم يوم النيروز. ومثل صوم كل خميس وجمعة، ومثل صوم شهر رجب وشهر شعبان، فعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (رجب، شهر عظيم، يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، من صام يوماً من رجب، تباعدت عنه النّار مسيرة مائة سنة، ومن صام ثلاثة أيام، وجبت له الجنّة، وفي حديث: (أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماًـ إلاّ شعبان يصل به رمضان).

* * * * *

وهنالك، أنواع شتى، ومن الصوم المكروه، كصوم يوم عاشوراء ـ لأنّه يوم تبركت به بنو أمية، وابن آكله الأكباد ـ والصوم الحرام، كصوم يومي (العيدين) و (صوم الوصال) و(صوم الصمت).

* من كتاب حديث رمضان

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/تموز/2014 - 20/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م