التهجير.. سُنّة، ابتدعها البعثيون واستورثها التكفيريون

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: التهجير القسري من محل السكن والوطن، باتت مفردة سريعة الفهم، لأنها ترسم بسرعة صورة لمواجهة محتدمة بين النظام الحاكم وبين فئة وشريحة في المجتمع يستشعر منها الخطر على حياته السياسية، فيقرر اقتطاعها من جسد المجتمع ورميها خارج الحدود او مناطق اخرى بعيدة.

بينما التهجير الطوعي، الذي يطلق عليه "النزوح" فانه قرار يتخذه الانسان تحت ضغط ظروف الحرب والقتال، كما حصل مع الشعب السوري الذي اجبرته الحرب الضروس بين القوات الحكومية والجماعات الارهابية على أن يترك حوالي (5) مليون إنسان منزله واستقراره بحثاً عن الامن في البلاد المجاورة وحتى البلاد البعيدة.

واعتقد أن لا شعباً عربياً ولا اسلامياً شهد ما شهده الشعب العراقي من حملات تهجير قسري وإجبار على النزوح الجماعي، وهو ما شكّل صوراً مأساوية مريعة تركت آثاراً عميقة في النفوس والاجيال. وكانت البداية عام 1970 عندما قرر نظام حزب البعث العراقي تهجير عدد كبير من العوائل العراقية بحجة اصولهم الايرانية، وبعد عقد من الزمن، أي بعد عشر سنوات تماماً، تكرر المشهد عندما أصدر ما يسمى بـ "مجلس قيادة الثورة" قراره رقم (888) القاضي بتجميد الجنسية العراقية من شريحة اجتماعية واسعة بنفس الحجة، وزاد عليها حجة معارضة النظام الذي تسلق على قمته "صدام" في شهر تموز عام 1979.

هذا ما يتعلق بالوسط والجنوب بشكل خاص، أما ما يتعلق بالشمال، فان النظام البائد استهل حملات التهجير القسري ضد المواطنين الكُرد خلال الحرب العراقية- الإيرانية بشكل خاص، وقد استخدم النظام سياسة التغيير الديموغرافي في المنطقة، لاسيما محافظة كركوك، التي أطلق عليها اسم "التأميم"، وقام بترحيل اعداد كبيرة من العوائل الكردية والتركمانية الى مناطق في جنوب العراق، واسكان عوائل عرب محلهم.  

ربما يكون التهجير او النزوح الجماعي امراً مألوفاً في أي مكان بالعالم يشهد حروباً اهلية، بيد ان ما جرى في العراق يمثل جرحاً غائراً في النفس الإنسانية، فالإنسان الذي يُحكم عليه بالتهجير، يكون مستباحاً في املاكه وهويته الوطنية وحتى في ابنائه، وإلا ما الذي يفسر السطو على أموال المهجرين الى ايران، المنقولة منها وغير المنقولة؟ ثم سحب الجنسية العراقية، منهم، ليس هذا وحسب، إنما اختيار الشباب وفصلهم عن عوائلهم واحتجازهم في السجون دون توجيه أي تهمة لهم، وبعد مضي حوالي نصف قرن على حادث التهجير، وبعد الإطاحة بالنظم الديكتاتوري – القمعي في بغداد، تجد العوائل شبابها في المقابر الجماعية..!، وفي المرحلة الجديدة من تاريخ العراق، حيث جرّب الشعب العراقي لأول مرة "الديمقراطية" وتشكيل نظام سياسي من خلال صناديق الاقتراع، كانت النتيجة ظهور أغلبية شيعية في مجلس النواب في دروته الأولى، مما يمكنه من تشكيل الحكومة بالتحالف مع الكُرد. هذا الصعود المفاجئ والسريع للشيعة في الساحة السياسية، ليس فقط للمكون السنّي في العراق، وإنما لإطراف إقليمية ودولية ايضاً. شكل تهمة جديدة في المرحلة الجديدة، فقد كانت التهمة في الحقبة الماضية؛ النشاط السياسي السري ضد النظام الحاكم، واليوم، النشاط السياسي العلني ضمن النظام الحاكم..

وعندما تؤكد المصادر المتطابقة وجود التحالف بين فلول النظام البائد، وبين الجماعات الإرهابية والتكفيرية، فان من بنود الاتفاق والتحالف الاستمرار بسياسة العقاب الجماعي الحاق الأذى قدر الامكان بالآمنين العزّل بهدف الضغط عليهم نفسياً ودفعهم باتجاه اليأس والإحباط والهزيمة النفسية.. وبالنتيجة تحقيق الغاية التي طالما سعى اليها نظام صدام، بل وصدام نفسه، وهو خلق حالة التباعد بين المواطن العراقي وبين هويته الدينية وانتمائه الى أهل البيت، عليهم السلام.

لقد جرّب التكفيريون وقبلهم نظام صدام، مختلف انواع التنكيل والقمع الوحشي ضد الشيعة لدفعهم – على الاقل- نحو الحياد واللامسؤولية إزاء كل شيء، عندما يجدون انفسهم معرضون للموت بمختلف الاشكال، ثم التهجير او التهديد بنسف البيوت واغتيال افراد العائلة. وهذا ما نلاحظه خلال السنوات  العشر الماضية، حيث شهدت المناطق الساخنة التي يسكنها الشيعة نزوحاً جماعياً الى المناطق الآمنة، في وسط وجنوب العراق، ويؤكد المراقبون والمتابعون وجود خطة واضحة لدى الجماعات الارهابية المتحالفة مع فلول النظام البائد، لإجراء عملية تصفية طائفية، كما يحصل اليوم لسكان تلعفر بمحافظة الموصل، وسكان طوزخورماتو ومناطق اخرى في كركوك، وسكان الاقضية والنواحي في محافظة ديالى، وكذلك الحال بالنسبة للمناطق المحيطة بمدينة سامراء المقدسة.

ولنا أن نتساءل بعد هذا السرد المختصر لمحنة التهجير والنزوح القسري.. اذا كانت المحنة والمعاناة في عهد النظام البائد أمراً واقعاً، بل يعده الكثير بانه ضريبة المعارضة للطغيان وتحقيق الكرامة، فما بال الساسة في بغداد الذين يفترض انهم يمثلون الاكثرية في النظام السياسي الحاكم، يتفرجون على حصول موجات النزوح والتهجير القسري بين فترة واخرى، كما لو ان العملية روتينية من مخاضات الازمات الامنية والسياسية..؟! ألا يوجد هنالك ما يمكن التضحية به غير الاطفال والنساء في معترك السياسة مع الغرماء والمتنافسين على السلطة من المكونات الاخرى؟.

في آخر نزوح جماعي يشهد العراق، فقد بلغ عدد النازحين من مدينة الموصل واطرافها حوالي نصف مليون انسان، بينهم حوالي عشرة آلاف عائلة شيعية تركت الديار في تلعفر ومناطق اخرى بحثاً عن الأمان في كربلاء المقدسة والنجف الاشرف وغيرها.. هذا اضافة الى ما تتناقله الاخبار باستمرار وصول رسائل التهديد الى بيوت الشيعة في ديالى بالرحيل في هذه المنقطة او تلك وإلا يكون القادم هو الرصاص، وبات مألوفاً لدى الكثير رؤية قصاصة ورق صغيرة ملفوفة حول رصاصة كناية عن التهديد بالتهديد بالرحيل وإلا الموت..

ان الاوضاع التي يعيشها النازحون من مناطق الحرب والقتال، لا يمكن التعبير عنها بكلمات بسيطة، لانها تتضمن آلام وآهات الاطفال المرضى والجياع، ومعاناة النسوة والمرضى من عدم تمكنهم من مقاومة الطقس اللاهب وشحة المياه والدواء ومستلزمات الحياة. طبعاً؛ تم تغطية نسبة كبيرة من هؤلاء بمختلف انواع المساعدات والمعونات العينية والمادية وتوفير السكن وبعض المستلزمات الضرورية من قبل جهات ومؤسسات عديدة، وهذا امرٌ حسن ويبشر بخير ويعزز الثقة في النفوس بوجود روح التعاون والتكافل في المجتمع. بيد ان هذه المساعدات مهما كانت، لن تجيب على السؤال الآنف الذكر، لان القضية ليست يوم او يومين ولا شهر او اكثر او اقل.. انما هي خط ممتد مع الزمن، فالسكان الشيعة في المحافظات الساخنة، يمثلون الحلقة الاضعف في الصراع على السلطة في بغداد. فهل يكونوا دائماً الاقرب الى الأيادي المجرمة لعناصر "داعش" او فلول النظام البائد؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/تموز/2014 - 15/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م