الإصلاح بين دور الفرد ومسؤولية العلماء

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: إصلاح النفس، تعني وضعها على الجادة الصواب، وطالما كانت النفس تغص بالميول والغرائز وتذهب دائما نحو تحقيق الرغبات، بشتى السبل، فإن الإصلاح هنا يستدعى نوعا من الثبات وردع النفس، وتحديد ميولها، لاسيما اذا كانت الرغبات خارج المقبول، او المتعارف والمتفق عليه، ضمن الأطر الشرعية، وضمن التقاليد والأعراف التي تستند الى المنظومة الأخلاقية للمجتمع، ويبرز في هذا المجال، أي مجال الإصلاح دوران، الدور الاول هو الدور الذاتي، والثاني يتمثل بدور العلماء في مساعدة الفرد على تحقيق الإصلاح في ذاته.

بهذا المعنى هناك مسؤولية فردية على الانسان في مجال إصلاح نفسه، فهو لا يعفى من هذا الدور إلا ضمن ضوابط محددة ومعروفة وواضحة للجميع، أهمها عندما تكون قواه العقلية ناقصة، وهذا خلل عضوي ربما يتعرض له الانسان، لأسباب كثيرة، وعند ذاك يكون عرضة للانحراف تحت ضغط قصوره او عجزه العقلي، ولكن هناك من يتحلى بالعقل المعافى، أي انه ليس مصابا بمرض عضوي في عقله، ومع ذلك هو انسان لا يمتلك الإصلاح المطلوب، مثل هذا الإنسان تترتب عليه مسؤولية فردية لتقويم نفسه وتصحيح مسارها.

ولكن يحتاج الانسان لتحقيق هذا الهدف الكبير (إصلاح النفس)، الى مساعدة إلهية روحانية، تتمثل بتمسك هذا الانسان بالتوسّل والدعاء الى الله تعالى على تمكينه من أهواء وردع نفسه التي تطالبه بالمزيد من المتع الزائلة، وعلى الانسان أن يدرّب نفسه على الاكتفاء بما لديه، ولا يطلق العنان لخياله وأطماعه التي لا حدود لها، وعليه أن يقبل تمام القبول بما قسم الله له من أرزاق ونِعَم وفضائل، وأن يؤمن بأن حياته هذه غير قابلة للثبات او الخلود.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي في هذا المجال، في احدى كلماته القيّمة: (على الإنسان أن يدعو الله تعالى ويتوسّل إليه، وعليه أن يعلم أن الدنيا زائلة وفانية، وأن كل النعم لا تتوفّر للإنسان، فيجدر بالإنسان أن يرضى بما قسم الله تعالى له). بهذا المعنى لا يمكن أن تصل النفس الى قناعة تامة بما يحصل عليه الانسان من نعم وأرزاق كتبها الله له، بل غالبا ما تطالب بالمزيد وتطمح بما هو أكثر وأكثر، لهذا ليس هناك سبيل أمام الانسان، سوى ردع هذه النفس وإيقافها عند الحدود المعقولة والمقبولة، ولا يمكن تحقيق مثل هذه المهام الكبيرة، إلا عندما يؤمن الانسان بما قسم الله تعالى له.

شهر رمضان والأعمال الصالحة

في الغالب تتاح أمام الانسان أعمال صالحة كثيرة، لاسيما في شهر رمضان الكريم، ولكن لا يمكن للإنسان أن يتصدى لكل هذه الاعمال الصالحة، ويؤديها كما يجب، لاسباب كثيرة، منها أن هذه الاعمال الصالحة قد تكون عرضية، مثل الصلاة وقضاء حاجة المؤمن .. كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا الجانب:

(إن كل واحد منّا تواجهه أعمال صالحة وحسنة كثيرة، ولكن بسبب كونها عرضية، فلا يمكننا أن نقوم بها كلّها. ومن هذه الأعمال الصلاة، وتلاوة القرآن، وقضاء حاجة المؤمن، والتفكّر والتدبّر في آيات وخلق الله، ومحاسبة النفس. فهذه كلها من الفضائل والنعم وفيها رضا الله تبارك وتعالى. ولكن وقبال هذا التزاحم ترى الإنسان يشغل نفسه بغير الواجب وبغير الأهم، فيتضرّر، وهذا الأمر يشبه معاملة تجارية يقوم فيها الإنسان ببيع بضاعة ثمنها مائة مليون دينار، بمليون ديناراً!).

لذلك يعد شهر رمضان المبارك فرصة كبيرة للانسان، حتى يتمكن من القيام بأفضل الأعمال، نظرا للأجواء الروحانية والإيمانية المتميزة التي تسود المجتمع المسلم، الامر الذي يعطي زخما قويا ودافعا مهما للقيام بالاعمال التي تساعد الاخرين من جهة، وتمنح القائم بها حسنات إضافية، من هنا على الإنسان المؤمن أن يستثمر الأجواء الرمضانية بالصورة الصحيحة.

إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ شهر رمضان العظيم، هو ربيع أفضل الأعمال وأحسنها، وسبب تسمية الروايات الشريفة لهذا الشهر بأنه ربيع القرآن، هو لجهة ان القرآن الكريم يدعو إلى أفضل الأعمال وأحسنها، وكلام المعصومين صلوات الله عليهم وأدعيتهم هي فرع من القرآن الكريم). هذا ما يتعلق بدور الفرد او الدور الذاتي في تحقيق الإصلاح، وهو كما لاحظنا دور مهم جدا.

وتقع مسؤولية هذا الدور على الانسان نفسه، فهو مطالب بالقيام بهذا الدور على أفضل وجه، وعليه أن يحث نفسه لتحقيق هذا الهدف، وأن يستثمر جميع قدراته لإصلاح الذات.

العلماء والمبلغين والرؤساء

الدور الثاني لتحقيق عملية الإصلاح، يتعلق بالعلماء والمبلغين وهو الدور الاهم الذي يساعد الناس على تنظيف النفس وتخليصها من سطوة الغرائز، حيث النفس الامارة بالسوء لا يردعها سوى النصح المتواصل، وبيان الحجج وتغيير القناعات، وجعل الانسان على ثقة تامة من ان حياتنا هذه زائلة، وأن عليه أن يعود الى جادة الحق المتمثلة باصلاح الذات. ومسؤولية تحقيق هذا الهدف الكبير تعود على العلماء والمبلغين، وسعيهم الدائم لنصح الناس وتبلغيهم بالامور الاصلاحية الحقيقية مع تقديم المؤثرات والحجج اللازمة لتعميق الايمان.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الخصوص: (إنّ المسؤولية الشرعية للسادة العلماء والمبلّغين دائماً وفي هذا الشهر المبارك تتلخّص بواجب عيني وهي تزكية النفس. وواجب كفائي وهي هداية الآخرين). مضيفا سماحته (انّ التعامل الصحيح والحسن يوجب هداية الناس وتربيتهم. فهل عملنا في عمرنا كله عملاً يوجب هداية وصلاح الآخرين؟).

وكما هو معلوم للجميع أن الانسان الفرد والمجتمع، يحتاج الى النموذج او القدوة لكي يتبع خطاه في الفكر والايمان والسلوك، والنموذج الاهم يتمثل بالعلماء من جهة والرؤساء او القادة من جهة ثانية، فإذا كان هذان النموذجان كما يجب، لاشك أن الانسان سوف يأخذ منهما الاصلاح ويصح العكس بطبيعة الحال.

لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع المهم: (جاء في الروايات الشريفة: العلماء والأمراء صنفان من أمّتي: إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمّتي). وأضاف سماحته (هذا يعني ان الرؤساء عندهم السلطة والمال والقوة والسجون، فيفسدون الناس. وأما العلماء فهم القدوة، والناس يتعلّمون منهم. فالأمر الخطير هنا هو انه إذا انحرف العالم عقائدياً فسينحرف معه من تبعه ومن اعتقد به).

لذلك يحتاج المجتمع الاسلامي الى النموذج الجيد للعالِم والرئيس او القائد، لانه محط انظار الجميع، وعندما يخطئ أحد هذين القدوتين للمجتمع، سوف يخطئ الجميع، ويصح العكس تماما وهذا هو المطلوب، لأنه الطريق الواضح لصلاح الفرد والمجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/تموز/2014 - 11/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م