في ذكرى السيدة خديجة الكبرى (ع).. نموذج العطاء

 

شبكة النبأ: جُبل الإنسان على الأخذ والتملّك ثم الاستئثار، فهو يتصور دائماً أن حصوله على المكاسب وتحقيقه للمصالح، يعني السعادة والعيش الرغيد بعيداً عن المشاكل والمنغّصات.. فجاء الذكر الحكيم ليبين معادلة جديدة، وهي أن الأخذ والكسب، ينبغي أن يكون طريقاً الى العطاء، ومنه يحقق سعادته وسعادة الآخرين. فثمة تأكيد واضح على الإحسان ودوره في بناء العلاقات الاجتماعية؛ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، و{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ}. فالعطاء ليس طريقاً للخسارة إنما الربح العظيم، وهو الإسهام في بناء المجتمع والإنسان.

هذه الحقيقة أدركتها في وقت مبكر، السيدة خديجة الكبرى – رضوان الله عليها- التي نعيش هذه الايام ذكرى رحيلها في العاشر من شهر رمضان المبارك، وبهذه المشاعر اقترنت بالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ثم آمنت بنبوته وصدقته منذ الساعات الأولى من البعثة الشريفة. وإلا فان السيدة خديجة كانت في مكة بمكانتها الاجتماعية المرموقة، فهي تعد من النساء الثريات ولها استثمارات كبيرة في التجارة، فما الذي يجعلها ان تقترن بشاب يبلغ من العمر (25) سنة، وهو يعمل لديها في التجارة اذا كان الهمّ مضاعفة الرصيد المالي وتعميق النفوذ الاجتماعي والاقتصادي؟.

رأسمال خديجة

تُشاع مقولة عن التجارة والاقتصاد أن "رأسمال المال جبان"، بمعنى أن المال يحل حيث الاستقرار والامن ليتسنّى له التكاثر بالإنتاج والعمل، أما في الاضطرابات السياسية فانه يكون معرضاً للتلف والخسارة، بينما نلاحظ عكس المعادلة مع صاحبة الذكرى، حيث أن آلاف الدنانير والدراهم من الذهب والفضة كانت تضعه بين يدي زوجها ليسد به حاجة من تضرر بدخوله الاسلام، بسبب سياسات القمع الأموية، من اعتقال ومقاطعة وحصار وتصفية جسدية.

وهنالك ارقاماً عديدة لحجم الاموال التي انفقتها السيدة خديجة على الرسالة، لكن الاجماع من المؤرخين على أنها بذلت للرسالة كل ممتلكاتها من اموال منقولة وغير منقولة، ثم خاضت – رضوان الله عليها- تجربة الحصار الاقتصادي من قبل المشركين، فعاشت مع رسول الله، صلّى الله عليه وآله، سنوات المحنة والقحط والحصار، ولم تتزعزع او تتراجع عن مناصرته، ومشاركته آلامه ومحنه، ففي "شِعب أبي طالب"، كانت خديجة عليه السلام تشتري الطعام والضروريّ من الحاجات بأضعاف أثمانها لتقدّم ذلك للمسلمين المحاصرين، حتى مرّت سنوات الحصار الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي فرضته قريش على الرسالة والرسول والأنصار من المؤمنين بسلام.

بمعنى أن ذلك الدعم المالي كان عاملاً اساس في تعزيز الثقة في نفوس المسلمين المحاصرين وانهم ليسوا وحيدين في الساحة، لذا جاء هتاف النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في حقها: "ما قام الإسلام إلا على مال خديجة وسيف علي".

خمسة وعشرون عاماً – تقريباً- قضتها خديجة في حياتها الزوجية مع خير البشر وخاتم الانبياء، وهي تقدم دروساً في التضحية والعطاء من اجل اهداف سامية، فهي تعرف جيداً ما تصنع، وأهمية الدور الحضاري الذي تضطلع به، لذا نجدها – رضوان الله عليها- تستبسل وتستميت في الرسالة ولا يهمها الضغوط الاجتماعية المحيطة بها، وعندما تكون الشجاعة في نفسها والمتانة في قلبها، فمن المؤكد ان ينعكس ذلك على اموالها ومواقفها وسيرتها في الحياة.

الوفاء للشجاعة

بالحقيقة؛ نحن ليس لدينا عن السيدة خديجة، رضوان الله عليها، إلا ما روي عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فهو المعرف الأول والاخير لزوجته المكرمة، لذا يمكن القول، ان تاريخاً جديداً بدأ لهذه السيدة الجليلة، منذ ان فارقت روحها الطاهرة الحياة، حيث بدأ النبي يحدث عن فضائلها ومواقفها، والحزن لا يفارقه حتى مع هجرته الى المدينة. فهو لم يتزوج من قبل، ولم يتزوج عليها إكراماً لها. فبقيت نقطة مضيئة في حياته رغم انه أكثر من الزوجات في المدينة، إلا ان صورة خديجة لم تفارقه أبداً.

ولعل من دلائل المنزلة والكرامة لهذه السيدة عند النبي الأكرم، ما روته عائشة، ونقل عنها "ابن الاثير"، قالت: "كان رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجةَ فيُحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيّام فأدركَتْني الغَيرة، فقلت له: هل كانت إلاّ عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها..!".

وقالت عائشة: "فغضب رسول الله، ثمّ قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتْني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولادَ النساء".

وقال، صلّى الله عليه وآله، في حقها: "أربع نسوة سيّدات سادات عالمهنّ: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد.. وأفضلهن عالَماً فاطمة".

وهنالك الكثير من المواقف عن وفاء النبي، صلى الله عليه وآله، لخديجة، واكثر من ذلك، الوفاء والثناء لمن كان يحب خديجة، وهذا ربما يكون قمة الوفاء.. ففي السيرة، جاء أن النبي ذات مرة كان جالساً وأمامه الطعام، فأمر ان يحمل منه الى امرأة في المدينة، فلما سُئل عنها، قال: انها كانت من القلائل التي تتفقد خديجة في وحدتها ومقاطعة نسوة مكة بعد زواجها من النبي، ومواجهتها الظروف الصعبة.

من هنا، نفهم سر العظمة في شخصية بعض النسوة عبر التاريخ، فالعطاء والبذل والتضحية، يأتي في قمة الحاجة الى الكسب والتملّك والاستئثار، سواءً بالمال أو الزوج او أي شيء آخر، والسبب ربما يعود الى التصور بان هذا من اسباب القوة والمنعة في الحياة، وبدونها تكون المرأة عرضة للمرديات والمخاطر، ثم لنلاحظ النسوة في مسيرة العلم والمعرفة والبناء الاجتماعي، لم تلق الخسارة وهي تجهد نفسها في تقديم مكتشفات علمية في الطب او الهندسة وسائر العلوم الاخرى. ولم تلق الخيبة والخذلان وهي تضحي بسعادتها وحياتها من اجل تربية جيل واعٍ ومتعلم.

ولعلنا نستفيد في هذا السياق مما قاله الكاتب والاديب السوري "سليمان كتاني"، صاحب أروع كتاب عن الزهراء، عليها السلام، (فاطمة وتر في غمد): "أعطت خديجةُ زوجَها حُبّاً، وهي لا ترى أنّها تعطي بل تأخذ منه حبّاً، فيه كلّ السعادة. وأعطته ثروة وهي لا ترى أنّها تعطي، بل تأخذ منه هدايةً تفوق كلّ كنوز الأرض. وهو بدوره أعطاها حبّاً وتقديراً رفعاها إلى أعلى مرتبة ويقول: ما قام الإسلام إلاّ بسيف عليّ وثروة خديجة".

رحلت خديجة – رضوان الله عليها- عن الحياة بهدوء بين يدي رسول الله ، صلى الله عليه وآله، بعد ان رسمت على شفاه الاطفال والنساء بسمة الإيمان وعمقت في نفوسهم الثقة بانهم يدينون بدين عظيم لن تتوقف امامه جدران الحصار ولا ضغوطات واستفزازات المرجفين، وربما لا تكون صدفة، أن تكون وفاتها بعد فترة وجيزة من خروج المسلمين من شعب ابي طالب وانفراج الحصار عنهم، وهم في سلامة من دينهم.

رحلت خديجة، رضوان الله عليها، وقد ولدت للنبي ولدين ذكرين: القاسم والطاهر، لكن القدر لم يبقهما قيد الحياة، أما المولود الثالث والعظيم، فهو الصديقة الطاهرة (الكوثر)، فاطمة الزهراء، عليها السلام، وهذه مكرمة أخرى تضاف الى كرامات خديجة، بأن تكون والدة للزهراء، وجدة للأئمة المعصومين، عليهم السلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 9/تموز/2014 - 10/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م