تركيا تنكفئ نحو الداخل مع توسع الحرب على حدودها

 

شبكة النبأ: لم يجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان -الطلق اللسان في العادة- الكثير ليقوله بينما كان المقاتلون المتشددون السنة من ذوي العقيدة القريبة من تنظيم القاعدة يتوسعون من سوريا إلى العراق على طول الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا في الشهر الماضي، واحتلت التصريحات التركية الصريحة المناهضة للحملة الأمنية للنظام السوري على المعارضة عناوين الصحف العالمية في الوقت الذي فتحت فيه أنقره حدودها مع سوريا وضخت المساعدات عبرها للاجئين ومقاتلي المعارضة على حد سواء. بحسب رويترز.

لكن بعد مرور ثلاث سنوات تحول الوضع عند عتبة تركيا إلى كابوس أمني وإنساني امتد حاليا إلى العراق المجاور، وطغى تقدم المقاتلين السنة وأزمة الرهائن الأتراك في العراق على حملة أردوغان ليصبح أول رئيس منتخب مباشرة من الشعب في تاريخ تركيا في الشهر المقبل، جاء رد فعله على الأزمة العراقية خافتا وخاليا من الخطاب الرنان أو الدعوات الدولية لاتخاذ خطوات عملية كان قد استخدمها في أزمات المنطقة السابقة مما يعتبر مؤشرا على السياسة التجريبية الجديدة في المنطقة والتي قد تترتب عليها اصداء واسعة.

ودعا أردوغان في موقفه إلى تجنب الضربات الجوية على المقاتلين المتشددين من دون أن ينعتهم بالإرهابيين، وقال أوزغور أونلوهيسارسيكلي من صندوق مارشال الألماني إن "لدى تركيا اليوم مخاوف أمنية لم تكن لديها قبل عامين لهذا فان شغلها الشاغل في سياساتها الخارجية اليوم هو ضمان امنها الخاص عوضا عن محاولة تغيير المنطقة".

وخفتت تصريحات أردوغان بشأن سوريا مؤخرا مقارنة مع دعواته في السابق للتدخل العسكري هناك إثر حملة أمنية شنها نظام الرئيس السوري بشار الأسد على معارضيه السنة عام 2011 وكذلك انتقاده اللاذع السابق للجيش في مصر الذي اطاح بالرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي في العام الماضي.

وفي حين قد يخفف الإنكفاء في السياسة الخارجية قدرا من التوتر المتصاعد في المنطقة لكنه قد يعني فترة خطرة من عدم وضوح الرؤية في وقت يتزايد فيه تهديد الامن التركي بسبب غياب السلطة المحدق الذي يزداد اتساعا عند الحدود الجنوبية والشرقية.

عرضة للخطر

عزز أردوغان لدى مجيئه إلى السلطة عام 2003 نفوذ تركيا الخارجي وأرسى علاقات ودية مع جيرانه بينما تدفق تجاره إلى مصر والعراق -في فترة ما بعد الحرب- كما نال الاستحسان كمثال ديمقراطي اسلامي معتدل للمنطقة.

ويرى الكثير من المحللين أن انكفاء تركيا على ذاتها سيشكل خسارة حقيقية للاستقرار في المنطقة على الرغم من قول بعضهم إن أردوغان -وهو سني متدين- قوض منذ وقت طويل التأثير الايجابي لسياسته الخارجية المبكرة بسبب تحيزه للسنة.

وينفي أردوغان وحلفاؤه التحيز الطائفي لكنهم يلقون باللوم على العالم الخارجي لتعاميه عن سوء معاملة رئيسي العراق وسوريا للسنة في بلادهما، وبات اختطاف 80 مواطنا تركيا بينهم القنصل العام على يد مسلحي تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام -التي بات اسمها لاحقا الدولة الإسلامية- عند احتلالهم الموصل ثاني أكبر مدن العراق في 10 يونيو حزيران عرضة للانتقادات بينما يخوض اردوغان حملته الانتخابية. بحسب رويترز.

وعلى الرغم من فرض الحكومة التركية تعتيما اعلاميا على مسألة المخطوفين غير أنها لم تتمكن من إسكات الانتقاد العنيف لها بسببه ما دفع اردوغان إلى اتهام المعارضة بأنها تريد "أن يصيب ضرر ما الرهائن الاتراك الثمانين لمجرد الرغبة في تقريع الحكومة"، وأطلق المتشددون يوم أمس الخميس سراح 32 سائق شاحنة تركيا ولكن الدبلوماسيين ومصادر الحكومة يقولون إن الرهائن الباقين يستخدمون كدروع بشرية لإبقاء أنقرة بعيدا عن التدخل العسكري بينما يتقدم المقاتلون المتشددون باتجاه بغداد.

وقال عثمان بهادير دنسر الخبير في شؤون الشرق الأوسط في منظمة الدراسات الاستراتيجية الدولية في تركيا إن "تأثير تركيا على قوة التغيير الداخلية في العراق اليوم محدودة إلى أقصى الحدود ولا يمكنها اتخاذ أي خطوة ذات أهمية".

العقيدة

ويقول المحللون ان أسلوب أنقرة الحذر حيال الأزمة العراقية يمثل نهاية حقبة كانت تتفوق فيها العقيدة على البراجماتية واتبع خلالها أردوغان خليطا مسموما من السياسات الخارجية والمحلية رغبة منه في أن يبدو قويا أمام قاعدته الشعبية المتحفظة ذات الاغلبية السنية.

لكن سياسة "انعدام المشاكل مع الجيران" تعثرت وحلت محلها علاقات متدهورة مع مصر وسوريا واسرائيل والعراق وايران بالاضافة إلى الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين، وقال سفير تركيا لدى العراق بين عامي 2007 و2011 إن أنقرة انزلقت إلى خصومة شبه طائفية مع ايران خسرت بسببها إلى الأبد سمعتها كقوة غير متحيزة في المنطقة. بحسب رويترز.

وقال السفير مراد أوزليك في جلسة إعلامية في أنقرة "قبل ثلاث سنوات كانت تركيا تعتبر قوة اقليمية مدهشة تستخدم قوتها الناعمة في العراق وكان جميع اخواننا في الشرق الأوسط يتطلعون إلينا"، ولكن العلاقات المتوترة بشكل متزايد مع حكومة نوري المالكي -التي يغلب عليها الشيعة- بالإضافة إلى مزاعم قيام تركيا بدعم الجماعات المعارضة السنية في سوريا أذكت الشكوك بأن اردوغان بدأ يهجر مبادئ السياسة الخارجية التركية التقليدية القائمة على العلمانية والديمقراطية وتعزيز الروابط التجارية.

وأضاف "لو تمكننا من العودة إلى الوسطية فلن يكون هناك سبب يمنعنا من أن نصبح اصدقاء من جديد مع الشيعة ونسترد احترامنا في المنطقة. في الوقت الحالي لا أعتقد أن لتركيا قدرة كبيرة على التأثير الايجابي والفعلي على مجرىات الأحداث في العراق أو في المنطقة"، وينفي المسؤولون الأتراك دعمهم للجماعات المتشددة وأعربوا عن احباطهم حيال عدم اهتمام اللاعبين الدوليين والاقليميين بانتقاداتهم المتزايدة للعلاقات الآخذة في التردي بين حكومة المالكي والسنة في العراق.

وقال ياسين أقطاي نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم لرويترز "لقد حذرنا مرارا من أن السياسات الاقصائية ضد السنة يمكن ان تؤدي لانفجار واسع للعنف. في الوقت الحالي لا يمكن لأحد أن يسيطر على الوضع. وليس باستطاعة تركيا أو ايران السيطرة على الوضع. لقد اجتاحت المنطقة موجة من العنف الخارج عن السيطرة".

وقال سنان أولجن رئيس مركز الدراسات الاقتصادية والخارجية في اسطنبول إن شعور انقرة بالاحباط تجاه تخلي الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء الغربيين عنها -وهو موضوع معتاد في خطابات السياسة الخارجية التركية- جعل من تركيا الخيار الأقل ترجيحا لقيادة جهود التصدي لعدم الاستقرار في المنطقة، وقال "من الاكيد ان انكفاء تركيا سيعود بالضرر على المنطقة ولكن الجزء الأكبر من هذا الانكفاء هو بسبب سياسات الكونجرس في واشنطن".

العودة إلى السياسة الواقعية

يقول المحللون إن التحديات الداخلية المتصاعدة في تركيا مثل الانتخابات والاقتصاد المترنح والاستقطاب المتنامي قد يعني العودة إلى السياسة الواقعية لحزب التنمية والعدالة في سنوات تأسيسه الأولى.

وقال سنجيز أكتر الباحث البارز في مركز اسطنبول للسياسات إن "الحكومة لا تتمتع بالرفاهية للعب دور مؤثر في المنطقة بعد الآن. بات أردوغان أكثر انشغالا بسياساته الرئاسية من مصير الأسد".

ورأى احد الدبلوماسيين في اسطنبول امكان العودة إلى السياسة الخارجية البراجماتية التي يحركها المال والتي ادت إلى ازدهار الاعمال التركية في المنطقة وخصوصا في عراق ما بعد الحرب، وقال الدبلوماسي الذي طلب عدم الكشف عن اسمه "ما هي المصالح التركية اليوم؟ الرخاء وتأمين الطاقة الرخيصة وعدم امتداد الارهاب إلى أراضيها ولهذا فان الأتراك مستعدون لفعل أي شيء لتحقيق هذا حتى لو كان بغيضا. لا يهم". بحسب رويترز.

ولكن اتباع مثل هذه السياسة البراجماتية لن يمر دون تحديات إذ أن أحد الموضوعات الشائكة سيكون ما إذا كانت تركيا ستدعم قيام دولة كردية في شمال العراق وسط تصريحات متناقضة للمسؤولين الحكوميين الأتراك حيال هذا الأمر.

فبعد خوضها حربا امتدت عقودا مع الانفصاليين الاكراد على اراضيها والتي قتلت أكثر من 40 الف شخص حتى أطلق أردوغان مفاوضات لوقف اطلاق النار في العام الماضي قد تجد تركيا اعلان دولة كردية مستقلة في العراق خطوة محفوفة بالمخاطر.

لكن في الوقت ذاته أرست أنقرة في السنوات الأخيرة الماضية افضل العلاقات مع اقليم كردستان شبه المستقل ووقعت اتفاقات قيمتها مليارات الدولارات معه لتوليد الطاقة في واحدة من النقاط المضيئة القليلة في سياساتها الخارجية الإقليمية.

وقال اولجن ان ذلك ربما سيشجع الاتراك (الأكراد العراقيين) "على الحصول على المزيد من الاستقلال الذاتي اذا لم يتحقق الاستقلال مع العلم أن أنقرة تشكك في هذا الموضوع لكنها لن تحاول أن تتخذ خطوات عملية لايقافه"، وأضاف "من وجهة نظر الدولة الاسلامية في العراق والشام فان موقف تركيا الأقل تدخلا وعدائية (تجاه ما يحصل في العراق وسوريا) هو نعمة بالتأكيد".

غير أن لعب تركيا دورا أكثر ليونة ربما يجعلها أقل عرضة لانقسامات مدمرة مع الجيران وعلى الارجح يتناغم جيدا مع مزاج الناخبين الذين باتوا اقل تقبلا للمزيد من المغامرات الاقليمية، وحذر دنسر من أن تركيا ستصارع للتأقلم مع الواقع المتغير وسط تسارع الاحداث بوتيرة مذهلة في المنطقة، وقال "نحن نتكلم عن منطقة حرب على طول الحدود الجنوبية لتركيا التي تزداد الأمور تعقيدا بالنسبة إليها يوما بعد يوم وحتى صناع القرار فيها لا يملكون خططا حقيقية. إنهم في حالة من العجز".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 7/تموز/2014 - 8/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م