قارب نجاة الحكم وغرق الجماهير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: من الطبيعي ان يجهد الحكام في بلادنا أنفسهم، للظهور ديمقراطياً امام شعوبهم والعالم، نظراً لسيل الاتهامات والشكوك بديكتاتوريتهم واستفرادهم بالرأي والقرار. ومن أبرز الوسائل، الديمقراطية نفسها، فآراء الناخبين يعدها البعض أنها "أمانة" لا ينبغي التفريط بها والتنازل عن الحكم مهما كانت الأسباب..! وبهذه الذريعة يتصور البعض انهم بذلك يخففون آثار أي أزمة مترتبة على مشكلة الحكم في البلاد الإسلامية، حتى وإن كانت أزمات عميقة ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية تمسّ أمن المواطن وكرامته وحريته.

فهل حقاً، هذا هو السبب او الوسيلة لصناعة قارب نجاة يضم الحاكم والمحكوم، أو القائد والجماهير..؟ أم نوهم انفسنا باننا نبتعد عن الازمنة الديكتاتورية البعيدة؟

في كتابه الشهير "السبيل الى إنهاض المسلمين"، يضيئ لنا سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- طريق الطريق لنجاة الجميع، حيث يشير الى أن "اللازم على الانسان الذي يريد تحقيق هدف ما أن يتبع الطريق الخاص لذلك الهدف.." في اطار قاعدة "السبب والمسبب"، وقد جربت بلادنا العديد من الانظمة والحكام الذين كانوا يطلقون الشعارات والوعود كما لو ان جنة الفردوس تحت اقدامهم، بيد أن الطريق الذي يمضون فيه، ويسوقون الناس اليه، لا يؤدي إلا الى الأزمات والحروب والكوارث. ثم بانت الحقيقة، أن تلك الشعارات كانت وسيلة للجم أفواه المعارضين والمنتقدين، لان مفاهيم مثل عن الحرية والوحدة والعدالة وحتى بعض الشعارات الاسلامية وايضاً الديمقراطية في الآونة الاخيرة، من غير المنطقي معارضتها، وإن كان هنالك من يناقش بحدّة الحاكم في عدم تجسيده هذه الشعارات، فان مصيره الموت.

التفكير والتخطيط

لا ننسى أن "الديمقراطية" التي نتحدث عنها في العراق وفي سائر البلاد الحديثة العهد بهذا المفهوم، خضعت للتطوير والتحوير طيلة القرون الماضية، قبل ان تصلنا من الغرب، فهي قبل ان تكون وسيلة للحكم ومرقاة لوصول الحاكم الى قمة السلطة، كانت وسيلة لتطوير حياة الإنسان الغربي، من العمل والإنتاج وحرية التملّك ثم تغيير نمط الحياة، وهذا النمط هو الذي تأسس عليه النظام السياسي في هذا البلد او ذاك، وليس كما يحصل لدينا، ان يستنسخ الشعب نمط حياته ومنظومة اخلاقه وثقافته من الحاكم الأوحد او القائد الضرورة..

وهذا يستدعي للقائد او رئيس الحكومة في منصبه التنفيذي، الطامح نحو البناء الحقيقي والتقدم بأن يعطي مساحة كبيرة للتفكّر والتدبر في الحاضر والمستقبل. وهذا ما يدعو اليه سماحة الامام الشيرازي، وأن يكتفي الحاكم بالشعارات وطرح المفاهيم حتى وان كانت صحيحة، لانها تبقى كلمات بحاجة الى روح ومصاديق على ارض الواقع، "فالتفكير والتدبر والاستشارة وفهم الروابط بين العلل والمعلولات وبين الاسباب والمسببات.. كل ذلك يعين الحركة الاسلامية في مسيرها وفي مصيرها وفي توسعها كماً وكيفياً..". يقول الحديث الشريف في حق الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – رضوان الله عليه- "..كان أكثر عبادته التفكّر".

من هنا تتأكد لنا الحاجة الى مراكز ابحاث وتخطيط ومستشارين أكفاء وحكماء من ذوي البصيرة والنظرة الثاقبة الى الامور، وهذا ما نلاحظه في أسس وقواعد الحكومات الغربية- الديمقراطية، فالحكومة ورئيسها لهم فترة أربع سنوات في السلطة التنفيذية، وهذه الاربع السنوات مشابهة لما غيرها من السنوات التي أمضاها رؤساء آخرون من حيث اشراف مراكز الابحاث والتخطيط والدراسات الاستراتيجية على القرارات التي تتخذ في المجالات كافة. وحتى وإن حصل تمديد في فترة الحكم فان هذا لا يُحسب بأي حالة من الاحوال لقوة واقتدار رئيس الحكومة هناك، إنما للحالة الديمقراطية والاستشارية، كما حصل في المانيا، عندما تم انتخاب "انجيليا ميركل" لولاية ثالثة في سدة الحكم باغلبية أصوات البرلمان العام الماضي.

كل شيء من اجل الجماهير

من هنا، فالتخطيط والبرمجة في سياقها الصحيح، هي تلك التي تحقق مطالب الناس والجماهير، قبل ان تنظر في أمر الحكم وتنفيذ السياسات العامة، ولهذا نلاحظ ديمقراطيات الدول المتقدمة، تحقق الاستقرار للشعب مادياً ومعنوياً، ومن خلال هذا الاستقرار يتمكن رئيس الحكومة او رئيس الجمهورية هناك من تمرير سياساته وبرامجه حتى وإن كانت كبيرة وذات ابعاد خطيرة، مثل خوض الحرب والمواجهة او التحالف والاندماج الاقتصادي وغير ذلك. فان الشعوب تقف الى جانبه. وقد سماحة الامام الشيرازي الى ضرورة تحقيق هكذا اجواء (ديمقراطية) عندما يحدد "علائم استقامة الحكومة في كثرة المساجد والمدارس والحريات، وقلّة اليباب والسجون والعزّاب، وعدم ازدحام الدوائر بالمراجعين، ووجود قدر يكفي من المستشفيات والمعامل وغيرها.. فالمساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، والحريات لأنها الأصل في رفاه الإنسان وتقدمه..".

وهذا ليس من المثالية في شيء، لاسيما في بلاد تحظى بقدر هائل من الخيرات والموارد الطبيعية والقدرات الإنسانية المبدعة، فعلى المسؤول في هكذا بلاد ان يستعد للإجابة عن آثار الديمقراطية على حياة الناس، فهل كان الفضل لهذه الديمقراطية في تطور الزراعة والصناعة بما يكفل قدراً جيداً من الاكتفاء الذاتي وإنعاش الاقتصاد والسيطرة على التضخم وتقليل نسبة البطالة؟، أم كان لها الأثر في مستوى التعليم وكفاءة المناهج ثم توفير فرص العمل للعلماء والمبدعين وخريجي الجامعات؟، ثم هل تسبب الديمقراطية في مكافحة الفساد في المجتمع بكل اشكاله، سواء في الدوائر أم في البيوت وفي كل مكان؟، أم حصل العكس؟!.

التجارب المريرة في بلادنا، تؤكد أن عدم ترجمة مفهوم الديمقراطية بما يناسب الواقع واستحقاقات الجماهير، تحيلها، هي بحد ذاتها الى أزمة ومعضلة للجماهير، بحيث يتسلل شعور لديهم بالندم على مشاركتهم في هذه التجربة التي يجدون انها تفيد فئة خاصة بل واحياناً شخص بعينه، فيما هم يواجهون الغرق في ازماتهم ومشاكلهم التي لا يجدون من يشاركهم في حلها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/تموز/2014 - 7/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م