تأثير القرارات على الرأي العام

وانعكاس ذلك على منظومة الأمن والاستقرار الوطني

محمد بن سعيد الفطيسي

 

 تعد عملية صناعة القرارات والتشريعات سواء كانت أساسية او عادية او فرعية من أصعب المهام القيادية والإدارية القائمة والقادمة، والتي قد تواجه أي أمة وطنية ودولة تسعى لتحقيق العدالة والتنمية والأمن والاستقرار لجميع قاطنيها سواء كانوا مواطنين او أجانب وافدين، ومما لا شك فيه بان صناعة القرار المناسب والسليم هو امتداد أصلي للقيادة المناسبة، حيث نستطيع ان نؤكد وبكل بساطة من ان احد اكبر التحديات التي واجهت وتواجه وستواجه أي دولة اليوم وفي المستقبل هي أزمة القيادات المناسبة، وليست أزمة القرارات المناسبة، فان توفرت الأولى صلحت الثانية، وهكذا يمكن صياغة نظرية إدارية سهلة الفهم والتطبيق في عملية صناعة القرارات والتشريعات، وهي قيادة سليمة تعني قرارات سليمة والعكس صحيح.

 وما يؤكد خطورة القرارات والتشريعات غير المناسبة سواء كانت نتيجة تسرع او تكتم او قصور في الدراسة والبحث والتقصي او سوء في الدعاية والتسويق او نتيجة اختيار الوقت غير المناسب لبثها او الشخوص غير المناسبين او مؤهلين لإعلانها على واقع الأمة الوطنية ومستقبلها هو ان امتداد تلك القرارات والتشريعات لا يؤثر فقط على الجيل القائم نفسيا او فكريا بل تمتد آثاره وانعكاساته على الأجيال القادمة بكل مستوياتها، كما لا يقتصر تأثير انعكاس تلك القرارات والتشريعات على جانب معين من جوانب الحياة الوطنية للأمة، بل تمتد أثاره لتشمل مختلف الجوانب ونواحي الحياة الوطنية سواء كانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية او أمنية...الخ.

 وفي الدول المتقدمة وذات الباع والخبرة الطويلة في هذا الشأن تمر القرارات والتشريعات بسلسلة طويلة ومعقدة من الإجراءات والفحوصات والتشريح والتمحيص ومهارات التفكير كالتحليل والتقويم والاستقراء والاستنباط قبل البت فيها وإصدارها بشكل رسمي ونهائي، كما تدرس بشكل علمي ومهني في مؤسسات متخصصة وعلى أيدي شخوص متخصصين ومؤهلين أكاديميا وفنيا، كما لا تتخذ في اغلب الأوقات على مستوى فردي، لأنها تمرر على الرأي العام والمؤسسات البرلمانية الممثلة للشعب والأمة، ومن ثم يمكن وكنتيجة نهائية ان يتم إقرارها او الرجوع عنها، لان تلك الدول تدرك تمام الإدراك ما للقرارات والتشريعات وخصوصا تلك التي تلامس حياة المواطنين ومعيشتهم ودخل الفرد من خطورة وانعكاسات سلبية طويلة المدى على واقع الأمة الوطنية بجميع امتداداتها وجوانبها في حال كانت خاطئة او متسرعة، ونخص بالذكر جانب الأمن والاستقرار الشامل والاستراتيجي للأمة الوطنية.

 وتؤثر تلك القرارات والتشريعات بشكل كبير وخطير خصوصا على المزاج العام او الرأي العام او رأي الشارع او الجماهير او المواطنين والمقيمين من نواح عديدة، ما ينعكس سلبا او إيجابا على منظومة الأمن والاستقرار الوطني الشامل والاستراتيجي لأي امة وطنية، فالانسان هو منبع الأمن والاستقرار وهدفه الرئيسي، وهو الحارس له والقائم على حفظه، حيث يلاحظ دائما ان جميع القرارات والتشريعات والتصريحات وخصوصا تلك التي تدخل في صلب معيشة المواطنين والمقيمين وحياتهم اليومية وتؤثر بشكل مباشر او حتى غير مباشر في دخل الفرد تأخذ مساحة واسعة من التعاطي والشد والجذب ما لا تأخذه غيرها من القرارات الوطنية.

 وتؤكد الكثير من الدراسات الأكاديمية المتخصصة سواء في الشأن الأمني او الاقتصادي او النفسي ذات الصلة باستقراء علاقة القرارات وتأثيرها بالرأي العام وانعكاس ذلك على منظومة الأمن والاستقرار، من ان الأثر والتأثير الذي تتركه القرارات الخاطئة والمتسرعة والتي ينتج عنها انعكاسات سلبية على الرأي العام على المديين المتوسط والطويل يكون عميقا وشاملا وخصوصا على الأمن والاستقرار الوطني من نواح عدة، يقع على رأسها التراجع التدريجي لمنسوب الثقة في مؤسسات الدولة والقائمين عليها وحتى على النظام السياسي، وافتقاد الطمأنينة والإحساس بالانتماء للأرض والوطن، وهي من وجهة نظري أهم الأسس وأبرزها مساهمة في تحقيق الاستقرار والأمن او تتسبب في الفوضى والإخلال بالمنظومة الأمنية.

 قد يقول قائل: ما الفائدة من الرجوع لرأي المواطنين او الرأي العام حيال قضايا اقتصادية او اجتماعية او سياسية تم تمريرها على خبراء ومتخصصين، وتم التعمق في دراستها وبحثها واستقراء آثارها وانعكاساتها وفوائدها بشكل جيد ؟ ولماذا يجب اطلاع الرأي العام عليها والاستئناس باراهم حيالها قبل إصدارها وفي اغلب الأوقات لا تملك الجماهير القدرة على إبداء الرأي العلمي او السليم حيال العديد من القضايا لافتقارها للمعلومة الصحيحة والقدرة على التحليل ولغلبة العاطفة والتسرع والانفعال على أفكارها وآراءها ومرئياتها؟ وكيف يمكن الاستناد او حتى الاستئناس بآراء الجماهير او الرأي العام او رأي الشارع الذي يمكن التأثير عليه إعلاميا او عاطفيا او ماديا او بوسائل كثيرة يمكن من خلالها تغيير مسار مصداقيته او نزاهته حيال قضايا الأمة المصيرية !؟

 وقبل الإجابة على هذا السؤال وجدنا من الضرورة تعريف مفهوم الرأي العام، والذي هو: الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية تجاه قضايا معينة او أكثر يحتدم حولها الجدل والنقاش وتمس مصالح الأغلبية او قيمهم الإنسانية مباشرة، وتعرف الموسوعة الفلسفية الرأي العام بأنه: مجموع معين من الأفكار والمفاهيم التي تعبر عن مواقف مجموعة او عدة مجموعات اجتماعية إزاء أحداث او ظواهر من الحياة الاجتماعية تجاه نشاط الطبقات والمكونات والأفراد، عليه فان الرأي العام هو: رأي الجماهير الواعية والمدركة لدورها في الحراك الحضاري، والوعي في معناه البسيط، هو المعرفة والفهم والإدراك التي يمتلكها او يبديها او يظهرها الشخص تجاه المثيرات او القضايا المختلفة التي تلامس حياته في الحاضر الراهن او المستقبل القادم.

 وللإجابة على السؤال الذي طرحناه سابقا نقول: ان العلاقة وطيدة ومترابطة بشكل قوي، وخصوصا عندما تلامس تلك القرارات والتشريعات الجانب الإنساني ومعيشة المواطنين وحياتهم اليومية – وبمعنى آخر- عندما تصب تلك القرارات في التأثير على واقعهم القائم ومستقبلهم القادم، فالدولة والحكومة المستنيرة تدرك تمام الإدراك ان الأصل والهدف والغاية من تلك القرارات هو مصلحة الوطن والمواطن بالدرجة الأولى والأخيرة، وهما أساسان مترابطان معا ولا يمكن فصلهما او الاستغناء بأحدهم عن الآخر، وعليه فان رضا المواطن عنها او سخطه وامتعاضه منها ينعكس على ثقته ونظرة المصداقية الى حكومته والقائمين على إدارة شؤون حياته ومستقبله فيها، وأي تصرف لا يستند الى المصلحة الواضحة هو في نظرها تصرف تنقصه المسؤولية الوطنية والسلامة والصواب ويفتقد الى الأهداف التي وجدت الحكومة والقائمين عليها في الأصل.

 وما يرفع من سقف ضرورة الرجوع والاستئناس الرسمي المسؤول الى الرأي العام في مثل هذا النوع من القضايا هو ارتفاع سقف الوعي الجماهيري او المجتمعي نتيجة العديد من العوامل والمحفزات الداخلية والخارجية كارتفاع سقف التعليم وتوفر المعلومة والقدرة على تبادلها نتيجة الزيادة المطردة في شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرقمية والتكنولوجية، ما يجب ان يترتب عليه في الجانب الآخر ضرورة ارتفاع سقف وعي الحكومة والمسؤولين وخصوصا الشريحة القائمة على إصدار القرارات والتشريعات في أي امة وطنية.

 إذا نحن اليوم أمام واقع مختلف ومعقد في بناء الدول والأنظمة المستنيرة واختراع حكومات المستقبل، واقع لا يمكن الاعتماد فيه على الفردية في إصدار القرارات والتشريعات، ولا يمكن القبول فيه بالقوة الصلبة او الإرغام والتهديدات، إذ يجب ان تفهم فيه الحكومات ان سقف وعي المجتمع وثقافته وفهمه للمتغيرات والمتحولات الداخلية والخارجية كما سبق وقلنا قد تغير بشكل كبير، ما نتج عنه تغيير في التطلعات والأهداف والنظر الى الواقع ومجريات الأمور، ما يحتم بالضرورة مواكبه ذلك التغيير بالاحترام والتقدير والسعي للتعامل معه بحكمة وحنكة وبراعة ومقاربة في الوعي الرسمي باعتباره –أي- ذلك الارتفاع في سقف الوعي الجماهيري تجاه قضاياهم الشخصية والوطنية مورد من موارد قوة الدولة وليس ضعف فيها او تراجع في نفوذها وسلطتها.

 وهكذا نفهم بان رجوع المسؤول الى الرأي العام قبل اتخاذ القرارات والتشريعات في كثير من القضايا الوطنية وخصوصا تلك التي تلامس معيشة المواطنين وحياتهم اليومية ودخل الفرد ومستقبل الأجيال القادمة هو مصدر من مصادر قوة الدولة وثباتها واستمرار للحكم الرشيد، وعدم ذلك هو سبب من أسباب إضعافها وفقدانها لثقة المجتمع من خلال تغلغل الشك والريبة في النفوس تجاه قرارات ومرئيات الحكومة مع الوقت، وبالتالي تراجع نفوذها وقوتها الناعمة عليهم، وهو ما يؤثر بالتدرج على مفهوم المواطنة ومنظومة الأمن والاستقرار الوطني بشكل تدريجي، من خلال ارتفاع سقف مشاعر السخط والامتعاض الممزوج بمشاعر التهميش والإهمال والإحساس فقدان الاحترام والمكانة الوطنية، وهو أمر خطير للغاية إذا تسيد الأفكار العامة تجاه نظام الحكم والمؤسسات الرسمية ومرئيات وخطط الحكومة وتوجهاتها القائمة والقادمة.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

azzammohd@hotmail.com

..............................................................

* بتصرف نقلا عن كتاب غير منشور لنا تحت عنوان: الدولة المطمئنة، ثلاثية: صناعة الأمن الوطني في زمن الفوضى الخلاقة - دولة للمؤسسات والقانون - حكومة ذات بعد مستقبلي - تنمية هدفها الرئيسي الإنسان-.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/تموز/2014 - 6/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م