بعد اليوم على حكومات شعوب العالم أن يدركوا جميعا، أن السلاح
النووي لم يعد قنبلة تصنع في مصانع سرية محكمة، بل يمكن أن يكون السلاح
النووي كلمة تخرج من فمي رجل دين أو قائد محنك يحبه شعبه ويطيعونه،
فالنصر والموت عندهم سواء. والذين لا يصدقون هذه القصة، فليقرؤا بتمعن
ما فعله السيستاني.
الفتوى التي أطلقها المرجع الديني العراقي علي السيستاني من منبر
كربلاء المقدسة، جنوبي بغداد، يوم الجمعة الموافق 14 حزيران 2014 ، على
أثر إستيلاء الجماعات المسلحة المعروفة بـ(داعش) على مدينتي موصل
وتكريت، غيرت خريطة التفكير العالمي، وصدمت من يفكر ويخطط للتغيير من
خارج الحدود، وبالتالي، لم يعد بوسع أحد - من الآن - أن يخطط وينفذ
مخططاته إذا كان في البلاد رجال وقادة من أمثال هذا القائد الديني.
قبل فتوى السيستاني كان قد صٌدم العراقيون، عسكريون كانوا أو
سياسيون، بالطريقة التي تمكنت فيها الجماعات الارهابية من السيطرة
السريعة على أغلب مدن محافظتي نينوى وصلاح الدين، شمالي العراق، على
أثر انسحاب غير مدروس للقطاعات العسكرية والامنية خارج هذه المناطق دون
مقاومة تذكر، على الرغم أن عدد القوات الحكومية ومعداتها كان يفوق
أعداد تلك الجماعات وعدتها. ولم يكن حلفاء العراق من الامريكيين
والاوربيين والايرانيين، والدول التي حاربت الارهاب بافضل حال من
العراقيين أنفسهم، فالجهود والتضحيات والاموال والمعلومات كلها قد ذهبت
هباءا منثورا، ولم تحول دون توسع وامتداد هذه التنظيمات المتطرفة.
فتوى رجل الدين السيستاني وحدها، وفي غضون يومين فقط؛ جمعت ما يزيد
على مليوني متطوع مدني، تدافعوا نحو مراكز التطوع للانخراط ضمن القوات
العراقية المسلحة، دون الرغبة بالحصول على أجور أو رواتب أو حقوق
مادية. وتشير بعض تقارير المنظمات غير الحكومية، أن هناك عددا من
الشباب العراقيين، قد لزموا بيوتهم، وهم يشعرون بالانكسار وخيبة الأمل
جراء رفض تطوعهم، إما لعدم قدرة مراكز التطوع على استيعابهم أو لانهم
من صغار السن، أو لانهم معاقون ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، أو من كبار
السن أو من النساء. ومن جانب آخر تشير التقارير الواردة من المؤسسات
الحكومية العراقية أن آلاف الموظفين المدنيين قد سجلوا أسماءهم أيضا في
مراكز التطوع أو في الدوائر الرسمية العاملين فيها لقتال "داعش" وهم
على استعداد للذهاب إلى القتال واسترداد المدن العراقية المحتلة.
قبل دعوة السيستاني للعراقيين لمقاتلة مجموعات "داعش" لم يكن
العراقيون يفكرون كثيرا بالدفاع عن أراضهم، وتركوا ذلك للقوات الامنية
المترهلة، وهم ليسوا على استعداد للتضحية بأنفسهم، نتيجة الاوضاع
السياسية والامنية المتهورة منذ عام 2003 ، فالحكومات المتعاقبة لم
ترتقي إلى مستوى إرادة هذا الشعب، ولم تتمكن من المحافظة على أرواح
العراقيين وممتلكاتهم، كما لم تلبي الحد الادنى من متطلباتهم.
بعد فتوى السيستاني، تناسى العراقيون همومهم ومطالبهم واحتياجاتهم،
ولم يعد حديثهم كما كان عن هذا الحزب أو ذلك، وهذا التكتل أو ذاك، وهذا
المسؤول السارق أو ذاك، بل تناسوا جميعا مواقفهم السياسية والدينية
والمذهبية، وإنصهروا في التفكير بعدو واحد أسمه "داعش" وأيد علماء
السنة العراقيون وغير العراقيين فتوى السيد السيستاني ودفعو بانصارهم
إلى التطوع ضمن أفواج الحشد الوطني، كما لم يكن التركمان والشبك
والمسيحون والاقليات الاخرى الذي يسكنون في مناطق التماس، ويعانون
الامرين، إلا جزءا من المجتمع العراقي المتفاعل مع هذه الفتوى.
قبل رأي السيد السيستاني، كان بعض القادة العسكريين الفاشلين
والمتواطئين والمستفيدين من جملة الامتيازات التي يتمتع بها القادة
العسكريون، يخفون الكثير من الحقائق، ويوصلون معلومات مضللة للقادة
السياسيين، ويؤكدون على جاهزية القطعات العسكرية لصد أي هجوم أو تعرض
أو اعتداء، رغم أن التقارير الصادرة عن بعض القادة العسكريين والامنين
الوطنيين كانت تؤكد أن هناك اعدادا كبيرة من الجيش العراقي وقوى الامن
والشرطة لم تكن مدربة بشكل كافي، وأن أكثر الفرق العسكرية عبارة عن
وحدات مناطقية ومذهبية وأثنية، ولم تكن بمستوى حمل السلاح الحديث، الذي
تم شراؤه من أمريكا وكرواتيا وبعض الدول، وأن ما يقارب من ثلث منتسبي
الوحدات العسكرية كانوا في إجازة دائمة مقابل مبالغ تدفع لقادتهم، فضلا
عن أن بعضهم لا يحمل عقيدة الدفاع عن الوطن.
ولكن فتوى السيستاني غيرت المعادلة العسكرية، وقلبت الطاولة على
القادة العسكريين الفاشلين، وأجبرت القادة السياسيين على محاسبة بعض
المقصرين والمتآمرين، وإحالتهم للتحقيق، ولم يعد بالامكان السكوت
وتكرار مثل هذه التجربة الفاشلة، وبالتالي، فان الدماء الشابة المتطوعة
من المدنيين والذي خاضوا معارك هنا وهناك في ظروف مختلفة مر بها
العراق، هم وقادتهم سيشكلون القوى الضاربة للجيش العراقي ورجال الامن،
إذا ما أحسن تدريبهم واستغلالهم بشكل مهني بعيدا عن المصلحة الفئوية
والحزبية والمذهبية.
قبل فتوى السيستاني كانت الاشاعات والدعايات التي لا طعم لها ولا
لون، تجول وتصول في الشوارع والاسواق والبيوت، وحتى المساجد والحسينيات
والدير والكنائس، وكانت هذه الاشاعات هي السبب الاول والرئيس في انهار
افراد القوات المسلحة في مدينتي موصل وتكريت، بل انهيار المجتمع
العراقي، ولكنها بعد فتوى السيستاني تلاشت وغابت، كأنها لم تكن، وحل
محلها إعلام الارادة والعزم والحياة والشهادة والقوة والمنعة.
بعد فتوى السيد السيستاني شعر العراقيون أنهم مع تلك المحن
والآلام، فان في قلوبهم حب عميق لبلادهم وأراضيهم ومقدساتهم، وأنهم لا
يرضون لاحد أن يعتدي عليهم ويهين كرامتهم، وأن لهم لحظة إذا ما انطلقوا
فيها لن يقف بوجههم أحد؛ فالأم التي كانت قبل دعوة السيستاني تمنع
اولادها من العمل في سلك الشرطة خوفا عليهم، هي اليوم تدفع بهم إلى
أتون الموصل وتكريت إلا لشي إلا لينتصروا أو يموتوا كما أمرهم السيد
السيستاني!.
كانت قنوات الاعلام الفضائية ساحة للاحتراب الحزبي والمذهبي
والاثني، وقد ساهمت في زعزعة الرأي العام العراقي، وتشويش صورة ما
يحدث، بعضها يتهم بعضا، ويرد بعضها على بعض، تحت دوافع سياسية ومذهبية
وقومية. ولكن بعد كلام السيستاني توحد الاعلام العراقي في رؤية واحدة
نحو هدف واحد وهو دعم سرايا الدفاع الوطني ومقاومة قوى الارهاب القادمة
من وراء الحدود العراقية. اليوم لا نشاهد ولا نسمع إلا إعلاما موحدا في
الوسائل والاهداف والغايات إلا وسائل الاعلام التي ارتمت في أحضان
مموليها..
قبل فتوى السيد السيستاني كان التجار في واد والشعب العراقي في واد
أخر، وكان هناك الكثير من التجار ممن كان يستغل محنة الشعب العراقي،
ويستورد سلعا خارج ضوابط الاستيراد ولا تخضع لمعايير الجودة المعتمدة،
وبعد دعوة السيستاني تطوع التجار لدعم قوات الحشد الوطني، واستيراد
المزيد من السلع والبضائع بالمواصفات والمعايير المعروفة، من أجل
توفيرها وزيادتها في الاسواق العراقية. ويقوم بعض التجار يوميا بالتبرع
بعدد من الشاحنات لمراكز التدريب أو مواقع القتال، ليس هذا فحسب، بل
نقل عن عمليات التفريغ والشحن أن بعض التجار قسم بضاعته إلى قسمين: قسم
تبرع بها، وأخرى أدخلها إلى السوق بسعر مناسب.
قبل فتوى السيد السيستاني وضعت دراسات ومخططات من دول وجماعات تخطط
على أساس تقسيم العراق إلى دويلات متناحرة على أسس طائفية وقومية،
وحزبية وعشائرية، وصرفت على هذه المخططات ملايين الدولارات، ولكن في
ساعة الصفر، وقبل إعلان الرقم (1) صعقت تلك الدول ومخابراتها وأجهزتها
الأمنية، بان رقم واحد لم يظهر على شاشات قنواتهم الفضائية، لان فتوى
رجل الدين السيستاني قد عطلت ماكناتهم، وخربت مخططاتهم، ونسفت
مشروعاتهم، وقضت على طموحاتهم.
قبل فتوى علي السيستاني لم يكن المسلمون الشيعة في العالم، يعيرون
الكثير من الاهتمام للازمات التي يمر فيها العراق، فالسيارات المفخخة،
وأسلحة كواتم الصوت، ووسائل الاعلام المعادية للعراق، لم تكن تثنيهم عن
زيارة مراقدهم الدينية والتبرك بها، ولكن بعد فتوى السيستاني استشعر
المسلمون الشيعة في دول الجوار والعالم، أن هناك خطرا ما محدق بمراقد
الائمة في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء، فاذا كان الشيعة اليوم يخرجون
في بلادهم بمظاهرات تندد بوجود العصابات الارهابية وبالدول الداعمة
لهم، فان التقارير تشير إلى أن آلاف الإيرانيين واللبنانيين
والباكستانيين والهنود وشعوب الخليج الشيعة ينظمون أنفسهم من أجل
الدفاع عن مقدستهم اذا ما اقتضى الامر ذلك.
قبل فتوى السيد السيستاني كان ضربا من الخيال أن يتفق الامريكيون
والايرانيون ولو نظريا على شيء فما تقوله امريكا ترفضه إيران وما تقوم
به إيران تستهجنه امريكا، ولكن بفضل فتوى السيستاني نسمع أن هاتين
الدولتين المتنافرتين، تفكران بالتعاون والعمل المشترك على مستوى
المعلومات والاستخبارات أو ضرب القوى الارهابية، أو الاقل الجلوس على
طاولة واحدة لمناقشة افكارهما وخططهما حول العدو المشترك!
في الواقع يمكن القول إن فتوى آية الله العظمى السيد علي السيستاني
غيرت المنطقة وغيرت وضع العراق تماما، فالعراق بعد فتوى السيستاني غير
العراق قبل فتوى السيستاني، والعراقيون يعيشون اليوم أجواء ثورة
العشرين كما عاشها أجدادهم، وهذا مؤكد، ومن لا يعتقد بذلك، ومن لا يعيد
حساباته، فهو حتما سيكون في صفوف الخاسرين.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |