الاختبار.. خطوة ضرورية ما قبل المواجهة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: معروفٌ شرط الاعداد والتهيؤ لخوض مواجهة ناجحة، سواء كانت عقائدية أم سياسية أم عسكرية. هذا الاعداد ربما يكون بالسلاح والمعدات والافراد والمال وسائر الإمكانات اللازمة، كما يكون بالاختبار ايضاً، وهي فقرة لا تغيب بتاتاً عن القادة من ذوي الحنكة والحكمة، فما فائدة المعدات والافراد، ما لم يتم التحقق من صلاحية المعدات وجدّية الافراد وكفاءتهم وإيمانهم.

وكلما كان اختبار الافراد دقيقاً، كانت نسبة الانتصار اكبر. وهذه ليست فكرة جديدة من ابداع البشر، إنما هي بالحقيقة، من سنن الله تعالى في الحياة، وقد اتبعها الانبياء والاوصياء في مواجهاتهم الحاسمة مع قوى الضلال والانحراف. ومن ابرز الامثلة من تاريخ الانبياء، ما يرويه القرآن الكريم عن قصة الملك "طالوت" والطاغية "جالوت"، عندما اختبر الملك جنوده في الطاعة، فكانت النتيجة خروج فئة قليلة من الصادقين والمؤمنين، وبهم انتصر في المعركة. ومثالنا الناصع ايضاً في معركة الطف، عندما اختبر الامام الحسين، عليه السلام، اصحابه بالتخيير بين البقاء معه، او التسلل في جنح الظلام والانسحاب بعيداً، وكانت النتيجة ظهور بعض الضعفاء المهزوزين، وبقاء الصفوة المؤمنة التي تخلّدت في التاريخ.

والمواجهة التي تخوضها الامة، وتحديداً في العراق، إنما هي في حقيقتها مواجهة بين مدرستين ومنهجين، وليس بين الساسة واصحاب المصالح الاقتصادية. انها الخط الفاصل الممتد من الانبياء والاوصياء، مروراً بكربلاء الحسين، عليه السلام، وتشملنا ثم تستمر حتى ظهور الامام الحجة المنتظر – عجل الله فرجه- . وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في حديثه الى جمع من الزائرين المؤمنين، بان الاختبار الاول والاخير يكون على العقيدة الصحيحة المستقاة من أهل البيت، عليهم السلام، ويتطلع سماحته الى المدى البعيدة في الحاجة لهذا الاختبار، عندما يوصي بالتهيؤ النفسي الكامل لهذا الاختبار لحاجتنا اليه في اليوم الموعود، وهو يوم ظهور الامام الحجة المنتظر. –عجل الله فرجه-  

الاختبار.. تجربة ذاتية

ان الاختبار الذي اشار اليه سماحة المرجع الشيرازي، وجاء في احاديث المعصومين غير مرة بالاشارة الى "الغربلة" و"التمحيص"، ليس بالضرورة ان يكون ضمن عملية روتينية، كما يحصل في المراكز التعليمية والاكاديمية، حيث يجتمع الطلاب في قاعات خاصة بالامتحان. إنما القضية شخصية وذاتية، بإمكان أي انسان إجراء هذا الاختبار بينه وبين نفسه، وربما يحتفظ بالنتيجة لنفسه، كما تكون الحالة الاخرى، حيث تكون عوامل موضوعية او ظروف معينة، سبباً في سقوط شخص ما على المحك، فيكون امام الاختبار العسير، ولا مجال له إلا اتخاذ الموقف الحاسم والظهور بما يستبطن من رؤى وقناعات، فعندما يكون التناقض مع الاصول، يكون وقع الفشل مدوياً.

وهذا ما يشير اليه سماحته من أن مرحلة الاختبار تقدم فرصة للمسيئين بأن يغيروا من قناعاتهم ومواقفهم، كما هي فرصة ايضاً لاكتشاف بعض السرائر وزوال بعض الاقنعة من الوجوه الحسنة في الظاهر. بيد أن مشكلة البعض تصورهم أنهم في غنىً عن الاختبار، فقد بلغ مستوى لا يحتاج معه النظر الى الخلف او الخشية من الميول ذات اليمين او ذات الشمال. وهذا تحديداً، هو نفس الخطأ الذي ارتكبه علماء كبار وشخصيات معروفة، فكان مصيرهم الانحراف والسقوط، بينما نلاحظ السمو والارتقاء في هذا الاختبار من نصيب علماء آخرين.

لكن أين مكمن السقوط في هذا الاختبار؟

انه تحديداً في الغرور والاعتداد بالنفس، وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. فذاك "الشلمغاني" العالم المعروف في عهد الغيبة الصغرى، لم يتمالك نفسه ونوازعه، عندما سمع باختيار الامام الحجة – عجل الله فرجه- شخصاً آخراً للسفارة الثالثة غيره، وهو "الحسين بن روح"، فاظهر التبرّم والسؤال الاستنكاري عن عدم اختياره، وهو الشخصية المعروفة بين الناس...! فكان رد الإمام – حسب المصادر التاريخية- عنيفاً وقاسياً عليه. بينما نلاحظ "النوبختي" وهو عالم آخر ومن الكبار ايضاً، قدم نتيجة باهرة في الامتحان، عندما وصلت رسالة الإمام – عجل الله فرجه- وقرأها السفير الثاني "محمد العمري" وهو على فراش الموت، وكان قريباً منه، وعندما سمع بان "الحسين بن روح" هو السفير الثالث، نهض اليه وبارك له، ودعاه لأن يكون بدلاً عنه قريباً من السفير الثاني، ليكون فيما بعد السفير الثالث.

من هنا جاء التأكيد من العلماء والفضلاء على مداومة تلاوة القرآن الكريم، وسيرة اهل البيت، عليهم السلام واحاديثهم، ليعرض الانسان نفسه على الينبوع الصافي فيراه فيه ما اذا كان قد علق به شيء دخيل او غريب على عقيدته وايمانه فيتمكن من ازالتها، فيكون مصداق الحديث الشريف: "حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا".

وسائل الاستعداد للاختبار

عندما تتوقف المسألة على نزعات ورغبات نفسية، فلابد من التوسّل بطرق تمكن صاحبها من تحقيق النجاح في هذا الاختبار الكبير، ومنها ما يشير اليه سماحته ضمناً في خطين متوازيين:

الأول: البناء الروحي والمعنوي، بالتقرب الدائم الى الله تعالى وطلب العون والمدد على النفس الأمارة بالسوء، ولنا في ذلك أسوة حسنة بالرسول الأكرم، والأئمة المعصومين، عندما كانوا يجدّون ويجتهدون في العبادة والتضرّع وطلب العفو من الله تعالى في اعمال مندوبة تثير الدهشة والاعجاب حقاً.. علماً انهم معصومون ولم يرتكبوا شيئاً يدفعهم للتوبة والخوف من العقاب، إنما الدرس في معرفة قيمة الارتباط بالسماء ودوره في الحصانة والمناعة من أي زلل في الايمان والعقيدة، بحيث يجعل الانسان مطمئناً الى حد كبير طيلة حياته، بانه لن يخسر الاختبار اذا جدّ الجد، وحانت ساعة الصفر للمواجهة الحقيقية.

الثاني: البناء الاجتماعي الذي يشير اليه سماحته، بـ"التواضع" ، ويستشهد بعلماء كبار في التاريخ، رغم منزلتهم العلمية والدينية وقربهم من الأئمة المعصومين، إلا انهم كانوا يعرضون دينهم عليهم لمزيد من التحقق والاطمئنان.. وهذا ما فعله "عبد العظيم الحسني" تلك الشخصية المعروفة الذي جاء الى الإمام الهادي، صلوات الله عليه، وقال له: جئتك لأعرض ديني عليك، لأطمئن من صحّته أو سقمه..! كما فعل الشيء نفسه "المنصور بن حازم" الذي كان من أفضل تلامذة الإمام الصادق، صلوات الله عليه، من بين أربعة آلاف تلميذ – يقول سماحته- وخدم الإمام لسنين طويلة وكان من المقرّبين إليه، فجاء عند الإمام الصادق، صلوات الله عليه أيضاً، وقال: جئتك يا بن رسول الله لأعرض عليك ديني، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى الله عزّ وجلّ..

هذا الخصلة والملكة في النفوس هي التي تمكن صاحبها من المراجعة والتصحيح لعدم المضي في الطريق الخطأ ويكون مصداق الآية الكريمة: {..الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون انهم يحسنون صنعا}. وايضاً حديث الامام علي، عليه السلام، عن عصر الغيبة: "يضلّ فيها قوم ويهتدي آخرون"، وهي نفسها التي تضمن سلامة العقيدة والايمان، يقول: سماحته:

"مهما كان الإنسان ـ والعياذ بالله ـ من أهل المعاصي، ولكن إن كانت عقائده سليمة وصحيحة فإنه لا يكون مصداقاً لـ(يضلّ)، مع ان المعصية أمر سيئ ومضرّ، والله يعفو عنها إذا تاب الإنسان منها توبة صحيحة وصادقة".

من هنا تبدو الاهمية كبيرة والحاجة مصيرية للحفاظ على جوهر العقيدة وسلامة الايمان في الوقت الحاضر والى يوم الظهور، أما الاستخفاف بالمسألة او الاعتداد المطلق بالنفس والترفع والتعالي يجعل صاحبه بعيداً عن الجذور، فيكون كالخشبة اليابسة سرعان ما تنكسر، أما المرتبط بالجذور فانه يكون مثل الشجرة المخضوضرة والمعطاءة. الى ذلك يوصينا سماحته بان "العمل بالعقائد النابعة من أهل البيت، صلوات الله عليهم، تهدي عالماً من المخالفين وتجعله في صفّ الموالين والأتباع لأهل البيت، صلوات الله عليهم. إذن علينا أن نحذر من الذين يروجون للعقائد السيئة..".ونوّه سماحته الى ان انتصار الشيعة في العراق الذين يتعرضون اليوم لتحدٍ حقيقي وخطير، يكمن بالدرجة الاولى في قوة عقيدتهم مذكراً بالشباب، الذين يجب ان تكون لهم الاولوية في تقوية العقائد وترسيخها في النفوس. وطالب سماحته مؤكداً بعدم السماح بانحراف شاب شيعي واحد عن طريق اهل البيت، عليهم السلام. بل شدد بالحرف الواحد: "اعلموا ان مقتل شيعي واحد، مع انه مصيبة كبيرة ومؤلّمة، لكنها أهون من انحراف شابّ شيعي بسبب ضعف عقائده..".

والمسؤولية هنا جماعية، كما انها فردية ايضاً، فالآباء والمسؤولون الحكوميون والمثقفون والعلماء والخطباء.. مدعوون لمساعدة الشباب وابناء الجيل الجديد، كما الناس جميعهم على الحفاظ على عقيدتهم الصحيحة والحؤول دون تسرّب الافكار الدخيلة والتشكيكات الباطلة وأي نوع من انواع الاختراق الفكري والعقائدي، الذي يعد بالحقيقة في كل الأمم والشعوب، أخطر بكثير من الاختراق العسكري.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/حزيران/2014 - 27/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م