شبكة النبأ: الحاضر بالنسبة للإنسان
الواعي ليس هو اليوم الذي يعيشه بل هو الغد القادم، فاليوم ينقضي بكل
ما فيه من مرارات وأفراح واحزان ومسرات، لكن ما بعد ذلك هو الاهم، وهو
يقتضي الانفصال عن اللحظة الراهنة والعبور الى اللحظة القادمة بكل
غموضها وضبابيتها وعدم توقع الامساك بها، لكنها – اي اللحظة القادمة –
هي الاهم في حياة الانسان.
تعود تلك الاهمية، الى سبب بسيط هو ان الانسان نفسه يصنع لحظته تلك،
ولا يجد نفسه مرغما على العيش فيها والتعامل معها، لانه بكل بساطة كان
قد خطط لها وتوقع قدومها وتوقع ما تحمله، لأنها ببساطة شديدة بنت لحظته
الراهنة.
الكثيرون من الناس يعيشون لحظتهم وحاضرهم، دون محاولة العبور الى
اللحظة القادمة، لانهم يفتقرون الى القدرة على التخطيط لها، وهذا
التخطيط هو (بعد النظر)، وهم في قصورهم ذاك كمن ينظر الى (سراب بقيعة)
كما يقول القران الكريم، وهو يحسبه ماء، لكنه لدى الوصول اليه لايجد
غير حاضره معه والذي لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه المستقبل.
بعد النظر هو ما خلف (السراب) لان السراب وهم شكّله الحاضر، لكن
المستقبل حقيقة تتشكل الان وهنا، اذا احسنا النظر اليها ببعد نظر،
ودربنا عقولنا وارواحنا عليه.
يقال ان الانسان ابن ماضيه، لكنه ايضا ابن حاضره، ويمكن ان نضيف الى
ذلك وهو الاهم انه ابن مستقبله.
جميع مشاكلنا تعود بالدرجة الاساس اننا لا نمتلك غير الماضي بصورته
المشوهة، وبانكساراته وهزائمه وكل سلبياته، وهو يطغى على حاضرنا الراهن
ويستلب منا كل قدرة على التقدم خطوة الى الامام، ولا احد يمكن ان يطرح
سؤال (وماذا بعد ذلك؟)، لأننا منشغلون بسؤال الماضي واللحظة الراهنة،
ولا ننفك من اسرها وقيودها.
في الكثير من دول العالم، وهي التي قطعت شوطا طويلا في ميدان التقدم
والتطور، تأسست مراكز أبحاث ودراسات حملت اسم (المستقبليات) وتضم عددا
كبيرا من الباحثين الذين يحاولون رسم صورة القادم من الايام، وريشة
رسمهم تمتد احيانا الى عقود طويلة قادمة.
لا تقتصر الوانهم على جانب واحد من المستقبل بل تشمل كل شيء، من
الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسياسة وجميع العلوم الاخرى.
فقط نحن العرب والمسلمون لا نملك تلك الألوان، لأننا استنفدناها في
ماضينا وحاضرنا، نعيد رسمهما ونجتره، حتى اصبحت لوحة حياتنا باهتة
بالشكل الذي عليه.
اذا انتقلنا من الناس العاديين، وهم الاغلبية المقهورة والمسحوقة،
وتوجهنا صوب قادة الفكر والرأي والسياسة والاقتصاد، فأنهم أيضا يعيشون
لحظتهم الراهنة المأزومة ولايملكون القدرة على الفكاك منها، لانهم لا
يتوفرون على بعد النظر.
وعدم التوفر على ذلك لدى القادة وصناع القرار يقود الى مشاكل
وصراعات وخيمة كما يحدث في العراق على سبيل المثال، او في الكثير من
البلدان التي لم تستطع ان ترتقي شعوبها وقادتها الى افاق اللحظة
القادمة واكتفت بالبقاء في اللحظة الراهنة.
بعد النظر وهو ما يسمى (المستقبليات) كتب عنه الامام الشيرازي
الراحل داعيا ممارسي التغيير الى امتلاكه فهو يقول حول ذلك في كتابه
(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) ما نصه: (على ممارسي التغيير التسلح
بالرؤية البعيدة حتى يتمكنوا من تمييز الصالح عن الطالح، والصحيح عن
الفاسد، وما يوصل عما لا يوصل، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام):
(العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)، والإنسان إذا عرف ملابسات
المستقبل لا تهوله الصدمة مما توجب انسحابه عن الساحة إذا وقعت الواقعة
المؤلمة يوماً ما).
وهو لم يكتف بتلك الدعوة والتي كررها في الكثير من كتبه، بل عمل هو
نفسه بها اولا، ومارسها في اكثر من مناسبة.
في العام 1991 اندلعت الانتفاضة الشعبانية في العراق بعد هزيمة
القوات العراقية امام قوات التحالف ضد غزو الكويت الذي قام به صدام
حسين، يومها توجه اليه عدد من العراقيين بسؤال عن الصورة المستقبلية
للعراق فيما اذا سقط النظام، كان الإمام الشيرازي (قدس سره) يرى إضافة
إلى ضرورة إسقاط النظام المستبد، لابد من توافر بنية أساسية داخلية،
تعتمد على الشورى والتعددية والحرية واحترام حقوق الإنسان وحقوق
الأقليات، وما طرحه الإمام الراحل أيام الانتفاضة الشعبانية، كان عبر
بيان حمل جوابه الذي تضمن بعد النظر لرسم صورة المستقبل.
وحددها في اكثر من نقطة، هي:
(يجب أن تكون الأكثرية هي الحاكمة) وهو المبدأ الديمقراطي الذي تعمل
به الديمقراطيات الراسخة، على ان تكون الاكثرية ضامنة لحقوق الاقليات
الاخرى.
(من الضروري استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية) والتي يجب ان
تكون مستقلة عن الحكومة مثل القضاء.
(اللاعنف هو المنهج العام في الداخل والخارج، فإنه هو الأصل ونقيضه
استثناء).
(يجب أن تراعى حقوق الإنسان بكل دقة، حسب ما قرره الدين الإسلامي
الذي يتفوق على قانون حقوق الإنسان المتداول في جملة من بلاد العالم
اليوم، فلا إعدام مطلقا إلا إذا حكم ـ في كلية أو جزئية ـ مجلس (شورى
الفقهاء المراجع) إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة و«الحدود
تدرأ بالشبهات»، كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد حتى من الحد
المقرر في العالم اليوم، كما لا تعذيب مطلقا، وكذلك لا مصادرة للأموال
مطلقا).
(وبالنسبة إلى ما سبق يتمسك بـ (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ ، كما
عفا الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) عن أهل مكة: «اذهبوا فأنتم
الطلقاء»، وعن غير أهل مكة، وكما صنع ذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه
السلام) ويؤيده ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): إن حديث «الجب»
أولى بالجريان بالنسبة إلى المسلمين من جريانه في حق غيرهم).
(للأكراد والتركمان وأمثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة
القادمة، وفي كافة مجالات الدولة والأمة).
(ينبغي أن تتخذ الدولة القادمة سياسة (المعاهدة) أو (المصادقة) مع
سائر الدول في إطار مصلحة الأمة)
المتابع لكتابات الامام الراحل، يكتشف تاكيده المتواصل على (العفو)
تجاه الاخرين الذين عملوا مع النظام الذي يراد تغييره بعد حصول ذلك.
في العراق، ما يحدث اليوم هو غياب بعد النظر عن تلك الوصايا
والارشادات التي حددها الامام الراحل في خريطته المستقبلية، وقد يقال
ان الكثير من ذلك موجود على ارض الواقع، لكنه في حقيقته موجود بصورة
مشوهة وناقصة، لهذا كان ماحدث نتيجة طبيعية لهذا التشويه والنقص، وكان
ان شكل صدمة للقادة واصحاب القرار وللعراقيين وللعالم.
اختم بقول اخير للامام الراحل (قدس سره) حيث يقول:
(عدم بعد النظر يسبب للأمم مشاكل لا تعد ولا تحصى وأحياناً المشكلة
تبيد الأمة، ولذا بادت أمم في التاريخ وأحياناً تبقى المشاكل عقوداً من
السنوات أو قرونا). |