الديمقراطية في خطر..

فماذا سنفعل؟

نيكولاس وابشوت

 

تتلقى الديمقراطية لطمة. في كل قارة تقريبا تواجه محاولات ترسيخ حق الشعب في اختيار حكومته مشاكل عميقة. في العراق ومصر وأوكرانيا وروسيا وأفغانستان وباكستان وبلدان أخرى كثيرة تختفي الديمقراطية تحت الاستبداد والإحباط.

والإجابة الشائعة هي أن الديمقراطية الغربية ليست قابلة للتطبيق على الجميع وأن ما يصلح لمجتمعنا لا يصلح بالضرورة لغيره. وهناك رد آخر هو ألا نحاول نشر الديمقراطية في بقية العالم.. فهذا ليس شأننا.

كلتا الرؤيتين ضعيفتان وقاصرتان. فإن تخلت الولايات المتحدة عن الديمقراطية في بقية العالم فلن يغرق العالم وحسب بل وسيشق الطغيان طريقه إلينا سريعا إذ ستصبع القوانين الانتخابية هنا أكثر تقييدا.

مضت 25 سنة منذ دفع انهيار الشيوعية السوفيتية فرانسيس فوكوياما -الأستاذ في ستانفورد الآن- للقول بأن العالم وصل إلى "نهاية التاريخ" وأن الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة هي مرحلتها الأخيرة. قال إنها مسألة وقت قبل أن يلحق باقي العالم بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية ويدير شؤونه على أسس ديمقراطية.

بدا محقا في البداية. ففي عهد ميخائيل جورباتشوف -آخر زعيم شيوعي- تخلت روسيا عن الماركسية اللينينية وتحررت دول أوروبا الشرقية التابعة التي عانت قمعا منذ الحرب العالمية الثانية. ولأول مرة تجري بلدان مثل بولندا وأوكرانيا انتخابات حرة. وسرعان ما انتشر المد الديمقراطي وبلغ أوجه في موجة ديمقراطية عاتية في الدول العربية بشمال أفريقيا والشرق الأوسط.

تلك الرؤية الواسعة تبدو الآن من السذاجة بمكان. فسرعان ما ارتدت روسيا لوضعها السابق: الحكم المطلق أيا كان الحاكم.. بطرس الأكبر أو جوزيف ستالين. وتحت الذريعة التي يحتاجها لإعادة النظام لدولة عصابات فرض فلاديمير بوتين نظاما يجمع بين القمع والرهاب. ذهبت حقوق الإنسان ومعارضو بوتين يسجنون تعسفيا وأصبحت الانتخابات مسرحية هزلية.

تبدل حال بلدان اتفاقية وارسو القديمة في أوروبا الشرقية للأفضل لفترة لكن ظلت الديمقراطية الحقيقية سرابا في أغلب الأحيان. وكشرط للانضمام للاتحاد الأوروبي كان لزاما على الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق أن تجري انتخابات حرة وتضمن حكم القانون وتكفل حقوق الإنسان. بعض الدول لم تكن بحاجة لتلقين والبعض وجد أن الطرق القديمة من الصعب تغييرها.

وفور أن نالت عضوية الاتحاد الأوروبي نكصت بعض الحكومات -من اليمين واليسار كليهما- عن التزاماتها وعادت "ديمقراطيات محكومة" أو "دكتاتوريات منتخبة". هجرت المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وبلغاريا وسلوفينيا ورومانيا ضمن بلدان أخرى الديمقراطية الحقيقية وعادت إلى شكل ما من أشكال الدكتاتورية. ورغم جهود الاتحاد الأوروبي لتعزيز الديمقراطية عكف كثير من زعماء أوروبا الشرقية على تأليب الغرب على روسيا.

خير مثال لذلك ما حدث في أوكرانيا. فبعد أن كافحت لسنوات لتنعم بالديمقراطية قيل للنظام في كييف إنه لن يمكنه الانضمام للاتحاد الأوروبي إلا إذا أقام نظام عدالة يتضمن الإفراج عن المعتقلين السياسيين بمن فيهم رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو. وفي أثناء هذه المساومة الصعبة مع الاتحاد الأوروبي طرح بوتين عرضا مضادا مصحوبا بالروبلات سرعان ما قبله الزعيم الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش مما أطلق شرارة الانقلاب وأثار مشكلات البلاد الحالية.

وتفجر نبع الربيع العربي في جزء آخر من العالم. قدمت مصر نموذجا لجيرانها العرب عندما أطاحت في 2011 بدكتاتورها حسني مبارك وانتخبت الإخوان المسلمين الذين ينتمي إليهم محمد مرسي الذي فكك قلاع الحماية الديمقراطية وفرض قيودا إسلامية على سكان البلاد ذوي الاتجاهات الغربية. واتخذت التجربة المصرية الفاشلة في الديمقراطية مسارا مغايرا على أيدي الجيش تحت قيادة عبد الفتاح السيسي الذي انتخب هذا الشهر رئيسا ليحل محل مرسي. وتكاد تكون الأحداث في ليبيا وأماكن أخرى تسير في نفس الاتجاه.

أما في الغرب فهناك مخاوف لا نهاية لها من فشل نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي المنتخب ديمقراطيا في الحفاظ على تماسك بلده المتبعثر. والمختصون باللوم هم: الرئيس باراك أوباما لعدم ضغطه على المالكي لإبقاء قوات أمريكية في البلد بصفة دائمة ولعدم الضغط عليه بما يكفي لإشراك الأقلية السنية وكذلك على الرئيس جورج دبليو. بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير للإطاحة بالطاغية القاتل صدام حسين بل وأيضا على فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس وجرترود بيل الذين رسموا حدود العراق قبل قرن من الزمان.

وقد ذهب الناخبون إلى مراكز الاقتراع في أفغانستان لانتخاب رئيس جديد لكن الآمال ضعيفة في ألا يتمزق البلد على أيدي طالبان وزعماء القبائل المتحاربة الذين يديرون المناطق البعيدة عن العاصمة فور خروج القوات الأمريكية والقوات المتحالفة منه. ومرة أخرى تبدو محاولات الغرب لتطبيق الديمقراطية مضيعة للأرواح والأموال.

وباستثناء الذين يستغلون الاضطرابات الحالية في العراق وأفغانستان ومصر وأوكرانيا في أغراض سياسية محلية هناك شعور عام بين الأمريكيين بأن الأوان حان بعد خوض حربين في عشر سنوات لأن تنسحب الولايات المتحدة من العالم. وتتزايد الانعزالية الجديدة -وهي النسخة الحديثة للحركة الشعبية التي أبقت أمريكا بمنأى عن الحرب العالمية الثانية لثلاث سنوات- وهناك زعماء من اليمين واليسار سعداء بركوب الموجة.

ليت هؤلاء الذين تخلوا عن السعي وراء الديمقراطية في الخارج بذلوا نفس الجهد لضمان أن الديمقراطية هنا في وضع سليم. لكن غالبا ما يكون من يطالبون أمريكا بالانسحاب وراء حدودها وترك بقية العالم معلقا هم أنفسهم الذين يساعدون في تقهقر الديمقراطية في الداخل.

وأحد أفضل المعايير لقياس الديمقراطية عدد المواطنين المشاركين فيها. ففي الانتخابات الرئاسية عام 2012 لم يشارك في التصويت سوى ثلاثة من كل خمسة أمريكيين. لماذا؟ الديمقراطية في أمريكا تواجه هجوما.

فرسم حدود الدوائر الانتخابية بما يضمن حكم حزب واحد والمحاولات الواسعة لتغيير القواعد التي تحدد من بإمكانه التصويت ومتى تذرعنا بغش انتخابي لا وجود له وقرار المحكمة العليا في قضية سيتيزنز يونايتد للسماح بالمؤسسات بالتبرع بمبالغ ضخمة لحملات من سينفذون ما تمليه عليهم في الكونجرس... كل هذا يجعل من الديمقراطية الأمريكية مسخا.

لكن الأمر لم يكن على هذا المنوال دوما. فالقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها اقتحمت شواطيء نورماندي في مثل هذا الشهر قبل 70 عاما لتحرير أوروبا والعالم من النازية. لم تجفل من الترويج للديمقراطية وإعادتها لمن فقدها في عمليات الاحتلال والضم التي قامت بها دول المحور وكذلك محاولة نشرها في مستعمرات حلفائها.

وفي ظل فكرة أن الديمقراطية في خطر -حتى في أمريكا- يستحق الأمر تذكر كلمات ونستون تشرشل الذي ظل لست سنوات طوال يحث الأحرار على التصدي للطغيان. قال "ما من أحد يدعي أن الديمقراطية نموذجية أو تتسم بالحكمة الكاملة... بل قيل في الحقيقة إن الديمقراطية هي أسوأ شكل من أشكال الحكم باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تختبر بين الحين والآخر."

الديمقراطية مثل الزواج... تنجح إن هي عاشت وترعرت. ووسط الصخب الذي يطالبنا بالتخلي عن جهودنا في مساعدة الديمقراطية على الازدهار في أنحاء العالم فإنه يجب رعايتها باستمرار سواء في الداخل أو الخارج. فما من شيء يمكن أن يلهم الآخرين بالديمقراطية أكثر من نموذج للديمقراطية يحدث فارقا في حياة الأمريكي العادي هنا في أرض الوطن.

وفي ظل استطلاعات الرأي التي تظهر عدم حماس الأمريكيين للتدخل لمساعدة الديمقراطيات المتعثرة سيكون من الأيسر على السياسيين -وبخاصة مرشحي الرئاسة المحتملين- استرضاء الرأي العام. ولكن مع الذكريات التي بعثتها الاحتفالات بذكرى يوم الإنزال في أذهاننا هذا الشهر فإن الأمر جدير بأن نتذكر أن قيادة جريئة وحاذقة تحركها أنبل الدوافع هي التي شجعت قبل 75 عاما الجيل الأعظم على وضع مصالحه الشخصية جانبا والإلقاء بنفسه فيما أصبح دون شك أنسب ساعة لتحرير العالم من الطغيان.

* رويترز

http://ara.reuters.com

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 23/حزيران/2014 - 24/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م