أخلاقيات التغيير... المجاملة والمداهنة وتحمّل الضيم

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لا يعيش الإنسان في جزيرة منفصلة عن الاخرين، فهو كائن اجتماعي لا يجد نفسه الا عبر التواصل مع اناس غيره.

وهذا التواصل يحتاج الى ادوات ووسائل يصطلح عليها في زمننا الراهن (فن العيش) او (فن الحياة) الذي يقوم على المجاملة في التعامل بين الاخرين لقضاء الحوائج والحصول على المنافع الحياتية المتبادلة.

والمجاملات ضمن اطار العيش المشترك مع الاخرين، تستدعي نوعا من التعاطي المرن مع سلوك الآخرين، لا يخرج عن طور الحسنى والاعتدال، رغم ما قد يشعر به البعض من الم ومرارة نتيجة لهذا السلوك عليه.

في كتاب (نهج الشيعة.. تدبرات في رسالة الامام الصادق عليه السلام الى الشيعة) للمرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) يرافقنا شارحا ومفسرا لمضامين هذه الرسالة، عبر تسليط الضوء على مفرداتها وعباراتها وما تستبطنه وصايا الامام عليه السلام الى الشيعة من معاني ودلالات.

وعليكم بمجاملة اهل الباطل.. تحملوا الضيم منهم.

في تعريفه للمجاملة، يقول السيد صادق الشيرازي هي: (ان يتعامل الانسان مع الاخرين بالحسنى وان اسيء اليه بالقول او الفعل، فيرد القول السيء بالحسن والفعل القبيح بالجميل).

او هي (تجميل العلاقة والتعامل مع الاخرين).

في محاولة لفك الخلط بين المجاملة، وهي تجميل التعامل، وبين المداهنة وهي تلويثه، يطالبنا السيد المرجع الشيرازي بعدم الخلط بينهما وذلك من خلال معرفة ان المداهنة هي: (تلبيس الحق بالباطل)، وهي لا تقتصر على هذا التلبيس، بل تبريره لدى اهل الباطل، والسكوت على اعمالهم، وقد ذمها الاسلام وعاقب عليها الله تعالى، وقد اشار القران الكريم الى المداهنة وثقافة التغيير فقال الله تعالى (ودوا لو تدهن فيدهنون).

للمجاملة ثلاثة اصول وقواعد هي:

* المجاملة بالنية

* المجاملة في القول

* المجاملة في الفعل

فيما يتعلق بالأصل والقاعدة الاولى، فهي الاسهل بين تلك الاصول والقواعد، لأنها (لا تحتاج الى كثير معاناة وتحمّل لأنها امر نفساني)، وهي لا تكون ظاهرة الا بمقدار انعكاسها على تصرفات وسلوك الانسان، وعندها يكون التطابق بينهما كبيرا، وهي في الاصل (ان يكنّ المؤمن نية الخير لجميع الناس بمن فيهم اهل الباطل).

مقابل النوع الاول من المجاملات هناك المجاملة بالقول والتي (تتطلب التحمل، وفيها يتوقع من المؤمنين ان يصبروا ويصابروا ازاء سوء سيرة اهل الباطل، فيردوا اساءاتهم بالمجاملة وتحمل الضيم).

لكن الاصعب من ذلك، هي المجاملة بالعمل، وفي هذه المرحلة ينتظر (من المؤمن ان يلبي حاجات الاخرين ولو كانوا اعداءه وممن يخلقون له المشاكل، وهي مهمة صعبة تتطلب الاستعداد النفسي والروحي الكبيرين).

وهذا النوع يجمع النوعين السابقين سوية، عبر القدرة النفسية والروحية للإنسان، والتي هي استعداد وتمكين.

في الرسالة، لم يوجه الامام الصادق امره بالمجاملة وابداءها نحو المؤمنين فيما بينهم، لان ذلك امر مفروغ منه وانما امرهم بمجاملة اهل الباطل من المشركين والملحدين والكفار.. وان يعاملوهم بالحسنى وبالتي هي احسن، من باب (ويدرءون بالحسنة السيئة).

والمتتبع لسيرة الانبياء ورسالاتهم، وسيرة اهل البيت (عليهم السلام) يستطيع ان يكتشف ان الهدف من تلك الرسالات والسيرة العملية هي هداية اولئك الاصناف الثلاثة من الناس (المشركون والملحدون والكفار) ولا يتم ذلك الا من خلال المجاملة كما في الكثير من المواقف التي ابداها الانبياء واهل البيت عليهم السلام.

ولعل ذلك يعود بالدرجة الاساس الى ان من عادة الناس انهم لو بادروهم بالحسن فانهم ولو بعد حين يبادلونهم التعامل بالحسن.

نقطة اخرى مهمة يؤشر عليها المرجع الشيرازي فيما يتعلق بمدى قبول او رفض المجاملة من الاخرين، والتي عادة ما تكون خارج التوقعات لمن يمارس المجاملة قولا وفعلا، اذ يجب علينا ان لا نتوقع النتائج الطيبة سريعا ودائما، لان هناك عواقب متفاوتة بانتظار المؤمنين بعد المجاملة، ولذا قال الامام الصادق عليه السلام (وتحملوا الضيم منهم). والضيم هنا شامل لمطلق الكلمة وما تنصرف اليه من معاني، لم يحدد الامام الصادق عليه السلام واحدا او مجموعة منها، بل هي شاملة لكل معانيها ودلالاتها.

وايضا رغم كل إبداء أنواع المجاملة، لا يجب ان يتوقع المؤمن ان يصلح امر هؤلاء الاصناف الثلاثة، وانما يستدعي ذلك العمل المتواصل واتخاذ الكثير من المواقف الايجابية التي تنم عن اللطف والليونة بصورة مستمرة ومتواصلة، عسى ان يكف المنحرفون او الضالون عن الامعان في الاذى والعصيان والظلم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 22/حزيران/2014 - 23/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م