القيادة الناجحة في وسط الازمات

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: القائد السياسي، رئيساً للحكومة او رئيساً للجمهورية – لا فرق- يبحث دائماً عن ولاء الجماهير المطلق ليتسنّى له تنفيذ سياساته وبرامجه في مرافق الدولة، وتتأكد الحاجة في الأزمات، سواءً الاقتصادية او السياسية او الامنية، حيث تعصف بالناس مشاعر الخوف من القادم، والاحتمالات والتصورات المتضاربة.

ولعل مثالنا البارز والحيّ في الوقت الحاضر، ما يعيشه العراق شعباً وحكومةً من أزمة أمنية – سياسية بسبب التحدي الارهابي من قبل الجماعات التكفيرية. والتضامن الجماهيري الكبير والحاشد، شكل – بالحقيقة- مفاجأة صادمة للأطراف المترصدة لنتائج العدوان الارهابي على عدد من المدن العراقية خلال الفترة الماضية. كما أثبت في الوقت ذاته، وجود الأصالة والنبل في نفوس الشعب العراقي بتمسكهم بالقيادة الموحدة المتمثلة بالمرجعية الدينية.

السؤال الذي ربما يدور في خلد الكثير من المتابعين.. هل يا ترى كان ثمة تخطيط مسبق لهذا التحشيد الجماهيري؟، ولنفترض وجود التخطيط والبرمجة كيف كانت النتائج؟،

بالتأكيد؛ تسعى القيادة السياسية لأن يكون التحشيد والتأييد على طول الخط، وليس لفترة معينة وتخبو جذوة الحماس. فهل يتحقق هذا بين ليلة وضحاها؟.

من خلال مطالعتنا في كتاب "السياسة من واقع الاسلام" نستشف من أفكار سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- نجد أن ثمة استحقاقات أكيدة امام هذه القيادة طيلة فترة تسنّمها الحكم بأن تنشغل في بناء القاعدة الجماهيرية من اللبنة الاولى الاولى، آخذاً بنظر الاعتبار كل الاجزاء البسيطة التي ربما لا تكون مهمة عند البعض، بينما هي كذلك، واكثر عند القائد والرئيس الذي تكون قراراته مصيرية، وتمس بشكل او بآخر بحياة الناس وطريقة تفكيرهم ومواقفهم.

من اجل ذلك يؤكد سماحته على أنّ "من الضروري الأكيد لأي قائد سياسي - إسلامي أن يتحلّى بأكبر وأكثر ما يمكن من الخلق الرفيع والمعاملة العطوفة المحببة مع الناس لكي يجلبهم إلى حظيرة الإسلام، أو يبقيهم في الإسلام، فإنّ أفضل وأسهل وأسرع وأعمق العوامل لزرع المحبّة في القلوب، هي الأخلاق الفاضلة والمعاملة الإنسانية العطوفة مع الناس".

الإعداد للبناء قبل الإعداد للتحشيد

يستند سماحته في رؤيته السياسية الى التجربة النبوية المشرقة في الحكم، وكيف أن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كسب القلوب بدايةً بأخلاقه الرفيعة ومواقفه الانسانية، قبل أن يكسب مواقف التأييد والتحشيد لأداء مهمته الرسالية.

وربما أهم و أول خطوة في هذا الطريق، تكون في محاكاة الواقع الاجتماعي والتقرب اليه بما يُشعر الناس بنوع من التماهي والتفهم لأحوالهم ومشاعرهم ومطالبهم، لذا نقرأ عنه، صلى الله عليه وآله، مشاهد يعدها المؤرخون المسلمون وغير المسلمون، غاية في الخلق الرفيع التي تأخذ صفة "التواضع" في قاموس المفاهيم الدينية، مثلاً طريقة مجلسه حيث يجلس بشكل دائرة حتى لا تعرف هويته بين اصحابه، ومواكبة الاحاديث الجارية خلال اللقاء باصحابه، حتى احاديث الطعام والشراب والمسكن والملبس، التي عادةً لا يعبأ بها النبي، لكن من اجل يراعي مشاعر المسلمين واحتراماً لتوجهاتهم وميولهم الذهنية، فهو يجاريهم في الحديث عن هكذا أمور، بل تكون الفرصة لتقويم الخطأ وتصحيح بعض العادات والسلوكيات في حياة بعض الصحابة.

إن هذه الهيبة والمنعة التي طالما يبحث عنها زعماء اليوم، لن تكون ذات فائدة على المدى البعيد عندما تعتمد على "سيارة" او "بنادق"، او "قصور رئاسية محصنة"، او سائر انواع الامكانات والقدرات الظاهرية، إنما الديمومة في الساحة لمن يوجد لنفسه مكاناً في القلوب والنفوس، ومن هناك تنبعث المواقف المصيرية في التأييد حتى اذا كان الامر يتطلب التضحية بالمال والنفس، وهذا ما نلاحظه جلياً في تجارب خاضها الأئمة المعصومون من بعد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ثم في تجارب قادة أفذاذ تركوا بصماتهم على الواقع السياسي والاجتماعي في التاريخ الاسلامي. لنذكر في هذا الحيز أمثلة قريبة علينا، مثل المرجع الديني الأعلى في زمانه السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- وقصته مع الاستعمار البريطاني، فلولا بنائه الاجتماعي، وسجاياه الاخلاقية السامية وصدقه وأمانته على مقدرات الناس، لما كسب ذلك التأييد الجماهيري الباهر الذي تحول الى هزيمة منكرة وصادمة للبريطانيين، ربما ما يزالون يتذكرونها بكثير من المرارة والحزن.

ولعل خير من يصف لنا السياسة الاجتماعية للنبي الأكرم، ربيبه وأقرب المقربين اليه، علي بن أبي طالب عليهما السلام، وسماحة المرجع الشيرازي، في كتابه يحرص على تسجيل هذا الوصف الدقيق، وهو جدير حقاً بالمطالعة والمراجعة لكسب العبر والتجارب، وكيف أن النبي الأكرم، ومن خلال حركات بسيطة وعفوية وتعامله اليومي مع الناس، يعد العدّة لبناء مجتمع متماسك يكون قادراً على تشكيل أمة متقدمة. بل ان سماحته يصف هذه السياسة بانها "أعظم سياسة في إدارة الناس".

الشمولية في الطرح

صحيح إن البناء الاجتماعي بلبنات من الخلق الرفيع والفضائل والمحاسن، من شأنه تهيئة النفوس وتليين القلوب لاستقبال التوجيهات والقرارات المصيرية الصادرة من القيادة العليا، والصحيح ايضاً أن هنالك مجالات متعددة في حياة الامة بحاجة الى ان تشملها "الحكمة والحنكة القيادية". فالقضية لا تتعلق بالمجاملات وأداء التحية والسلام وتقديم المساعدات والمعونات وكسب الود والمحبة، إنما هناك ميادين في الحياة يخوضها الناس بالضرورة، مثل ظروف الحرب والتعبئة لمواجهة خطر داهم، وايضاً في التعامل مع عوائل الشهداء والأسرى والمصابين، وفي مجالات القضاء، والاقتصاد، والتعامل مع المعارضة، والتبليغ للرسالة، أو ما يطلق عليه اليوم؛ "السياسة الخارجية"، الى جانب السياسة الاجتماعية وتحديداً تعامله مع زوجاته والمرأة بشكل عام. وغيرها كثير من الامور، كلها كانت تسير في اتجاه واحد متناسق، كما لو انه مركب يمخر في عباب البحر.

هذه الحنكة في الشمولية، يصفها سماحة المرجع الشيرازي بانها "سياسة عظيمة تحيّر العقلاء إذا امعنوا النظر فيها..". والسبب في ذلك انبعاثها من صميم الفطرة والوجدان الانساني، فكل حركات وسكنات النبي في تعامله مع الناس والاشياء، كانت انعكاساً سريعاً ودقيقاً للفطرة والحاجة الانسانية، وايضاً لنظام الكون والحياة. بمعنى أن لا شيء عبث في لقضاء الوقت في حياة النبي، وما يفترض ان يكون لدى القائد الناجح، حتى مسالة "الرفق بالحيوان" التي يعلمنا إياها، صلى الله عليه وآله، في اكثر من مشهد مؤثر، للدلالة على أحقية الحياة للحيوانات الأليفة الى جانب الانسان، وأن لا يكون هنالك ضرر متقابل. أما الفوائد التي يجنيها الانسان من هذه الحيوانات فندعها للمختصين في هذا المجال الذين اكتشفوا مؤخراً أن هنالك "توازناً بيئياً" بحاجة اليه الانسان لا يتحقق إلا بوجود أنواع مختلفة من الزواحف والقوارض والوحوش والطيور والحشرات.

وهنا التفاتة ذكية من سماحة المرجع الشيرازي بأن يحكم الربط بين "التجربة السياسية النبوية"، وبين المآلات المريعة للشعوب الاسلامية لما اصابها الانحراف الشديد نحو التزييف والتضليل بما أدى بها الى ضنك العيش وفقدان الامن والاستقرار. لذا فانه يسجل كل هذه المشاهد والتجارب " لكي لا يتصدّى لتعريف الإسلام من يجهل الإسلام. وينقطع الطريق على الذين يشوهون بأقلامهم الإسلام، وتبرأ ساحة الإسلام الناصعة من كل من يمارس باسم الإسلام في أكثر البلاد الإسلامية ـ في هذا العصر ـ مما الإسلام منه براء".

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19/حزيران/2014 - 20/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م