الخمور والمخدرات.. قنبلة موقوتة في كيان المجتمع

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تعاني العديد من المجتمعات ظاهرة تعاطي ابنائها الخمور والمخدارت بفئات عمرية مختلفة، وهو ما يشكل اهم تحدٍ اجتماعي واقتصادي ايضاً، يدفعها لمزيد من التراجع والانكفاء، وبسعة انتشار هذه الظاهرة وتفاقم المشكلة وتعقيدها، تكون الآثار السلبية لها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، لذا نجد ان المجتمعات ذات الطبيعة الهشّة او التي تعيش وضعاً سياسياً غير مستقر،تكون عرضة اكثر من غيرها لاستفحال هكذا ظواهر شاذة، والسبب؛ أن الخمور والمخدرات بالأساس، مثلها مثل "البكتريا" الموجودة في الجو، لن تصيب إلا الابدان الضعيفة والفاقدة لجهاز المناعة، فربما مرض بسيط يعرض صاحبه الى حالات ومضاعفات خطيرة تؤدي به احياناً الى الموت.

ومن الجدير بدايةً، وضع مائز بين الخمور والمخدرات. فهما يفترقان في التأثيرات الجانبية والاجتماعية، وايضاً في نوع المتعاطين، فيما يلتقيان احياناً كثيرة في حالة الإدمان، وايضاً في الدوافع للتعاطي او الادمان بشكل مستمر، أبرزها الهروب من الواقع ومن الازمات والمشاكل. لذا نرى أن البلاد العربية تعاني بالدرجة الاولى ظاهرة تعاطي الخمور، بينما بلدان اسلامية اخرى مثل ايران وافغانستان وباكستان، تعاني تعاطي المخدرات بالدرجة الاولى. وهذا يعود الى الارضية الاجتماعية المساعدة لنشوء هذه الظاهرة، وهي مسألة اشار اليها العلماء والخبراء منذ زمن بعيد. ثم لا ننسى أن تعاطي الخمور، رائج في البلاد ذات الدخل الجيد للفرد هناك، بينما المخدرات تنتشر بين الأقل قدرة على الانفاق، لاسيما وان هناك انواع رخيصة من المخدرات يمكن شرائها حتى من قبل الفتيان.

جهاز مناعة ضد الإدمان

في العراق حالياً، يتعرض المجتمع لموجة مخيفة من ظاهرة تعاطي الخمور والمخدرات، علماً أن تعاطي الاول، كان مشهوداً منذ فترات طويلة، ضمن المخالفات الشرعية المرتكبة من قبل بعض الناس، بيد أن التعاطي الثاني أخذ له مساحة لا يستهان بها خلال السنوات الاخيرة، بحيث أصبحت هنالك شبكات توزيع ومتاجرة بالحبوب المخدرة وانواع مختلفة من المخدرات. وجرس الانذار الكبير، في تدني الفئات العمرية المستهدفة من نوعي التعاطي، حتى بلغ الأمر سوءاً والمشكلة عمقاً، أن تسجل بعض الحالات في المدارس والجامعات.

والامر الاخر الاكثر إثارة للقلق في الوضع العراقي، أن ثمة أرضية خصبة مشجعة على تعاطي الاثنين، فاليأس والاحباط والشك بكل شيء، الى جانب سيولة مادية لدى شريحة لا بأس بها، دون وجود برمجة ومنهجية واضحة في الحياة. وهذه هي قاتلة هذا البلد – بالحقيقة- فكل شيء موجود.. الماء العذب والخيرات الوفيرة تحت الارض والقدرات البشرية فوق الارض والعقول والطاقات، لكن؛ لا شيء على الطريق الصحيح.. هذا النوع من الضياع او اللاهدف او الفراغ.. لابد من شيء يمليه، فالانسان يبحث عمن يأنس اليه، فاذا لم يجد الصديق الوفي وفرصة عمل، و الاجواء الصالحة في التعليم، و.... غيرها كثير، فانه يلجأ الى ما يريح باله ويقلل من تأزم اعصابه.

وضمن البحوث والدراسات الكثيرة التي أعدت حول ظاهرة الادمان على المخدرات بشكل خاص، قدم البعض تصوراً عن أن حاضنة هذه الظاهرة هي الفقر والحرمان والبطالة، وربما تكون هذه من العوامل المساعدة، بيد أنها ليست الاساس، بدليل أن التعاطي المستمر والادمان على الحبوب المخدرة وانواع اخرى من المخدرات بحاجة الى سيولة نقدية، وهذا لن يتوفر لدى المعدم او الساكن في الاحياء البعيدة والعشوائية، كما يخيّل الى البعض انها بؤر للاتجار بالمخدرات والخمور، الامر الذي يتسبب في خلق صورة نمطية خاطئة وخطيرة في آن، من شأنها تمزيق اواصر المجتمع، في حين الأولى، المضي في طريق المعالجة الجذرية. وقد توصلت بعض الدراسات الى الطبقة المتوسطة وحتى الثرية هي الاخرى مستهدفة في هذه الظاهرة، ما دام الفراغ النفسي والعاطفي، هو القاسم المشترك الذي تقف عنده الشريحة المتضررة، لاسيما الشباب.

لنلقي نظرة خاطفة على تجربة ثرية وحيّة في مكافحة المخدرات، من الجارة (ايران) التي تعد من اكثر البلاد  الاسلامية معاناةً من انتشار هذه الظاهرة وتجذرها في الواقع الاجتماعي، بل ان الإدمان على المخدرات، يُعد من أبرز الظواهر الاجتماعية السلبية على الاطلاق في ايران.

ففي السنوات الثلاثين الماضية، بما يعادل جيلاً كاملاً، بذلت مساعي وجهود جبارة، ذهب تركز معظمها على الجانب الأمني، حيث تم التعامل مع القضية في نتائجها، وليس مسبباتها. ومن المعروف أن ايران كانت في العهود السابقة من البلاد التي تزرع وتنتج الافيون، ومع مرور الزمن، وسقوط نظام الشاه، تم القضاء على نسبة كبيرة من مزارع الافيون، بيد ان الجارة الشرقية (افغانستان) بقيت محتفظة بمساحات واسعة من حقوق الافيون، كما تحتفظ – حتى الآن- بحصة من الحاجة العالمية من المادة الأساس لانتاج المخدرات. لذا فان الاجراءات العسكرية والأمنية والمخابراتية على الحدود، وفي الطرق الخارجية، مروراً بالقوانين الصارمة والاحكام القضائية القاسية، بل وحتى بعض الاجراءات التي وصفها البعض بـ "البرغماتية" بإقامة المصحّات ومراكز التأهيل ومحاولة تفهم الطرف المقابل، كل ذلك، لم يتحول الى نصر كبير للمسؤولين في طهران بأن يقللوا – على الأقل- من نسبة المدمنين أولاً، وثانياً المتعاطين للمخدرات، بل حصل العكس، حيث شهدت الارقام ارتفاعاً، لاسيما في فئة الشباب والفتيان.

ولم يجد المسؤولون في ايران بداً من الاقرار بواقع الإدمان، حيث وصف عضو لجنة الصحة في البرلمان الايراني محمد حسن قرباني زيادرة عدد المدمنين، بانه "يبعث على القلق"، بل كشف عن انتشار الظاهرة بين طلبة الجامعات، مؤكداً في حديث صحفي مؤخراً، فشل الاجراءات المتخذة طيلة الثلاثين عاماً الماضية. ومن ابرز الاجراءات القانونية، الحكم بالاعدام على كل من تثبت عليه متاجرته بالمخدرات، وعلى الصعيد الاجتماعي، وجود قانون في محاكم الاحوال الشخصية يفصل بين الزوج وزوجته فور التثبّت من كون الزوج مدمناً على المخدرات، وغيرها كثير من الاجراءات تعاضدها نشاطات اعلامية مكثفة وتعبئة جماهيرية واسعة. بيد ان خبراء اجتماعيون في ايران كانوا الاسبق في تأكيد فشل هذه الاجراءات بالقضاء على تعاطي المخدرات، ولعل من ابرز التصريحات إثارة ومدعاة للتأمل تصدر من مسؤول ايراني، ما جاء على لسان احد المسؤولين عن جهاز مكافحة المخدرات، متحدثاً على الصحافة عن الحالة النفسية التي وصل اليها المدمنين في ايران، بان "المدمنين ليسوا فقط لا يعبأون بالموت، بل هم يعيشون هاجس البقاء على قيد الحياة.."!

ومن جذور الادمان في ايران، يشير بعض الباحثين والمهتمين بالشأن الإيراني، الى حالة الانتكاسة النفسية لدى الرجل الايراني امام التفوق والتسيّد الموجود لدى المرأة، والمدعومة بقوانين حماية عديدة في المحاكم ومجالات العمل وغيرها. كما إن قضية تأخر سن الزواج في ايران وايضاً العزوف عن الانجاب في اول سنة من الزواج، وهو امرٌ متعارف عليه منذ سنوات، يعد عاملاً آخراً لتحجيم دور الرجل في ادارة الأسرة وتحقيق ذاته وشخصيته المفترضة، الامر الذي يفتح الطريق واسعاً باتجاه موائد المخدرات وحتى الخمور التي تجمع شبابا ورجالاً لا سبيل لهم في الحياة الناجحة.

ومن اجل ذلك، كان من شبه المتعذر وجود احصائية دقيقة عن عدد المدمنين على المخدرات في ايران، ففي مقابل الاحصائية الرسمية بوجود حوالي مليون و(350) الف مدمن مسجل لدى الجهات المختصة، فان هنالك احصائية تقول بوجود اربعة ملايين مدمن، وهذا لايشمل قطعاً اعداد المتعاطين لانواع المخدرات في ايران وبشكل غير معلن وبعيداً عن الانظار. وحسب المصادر فان حوالي (40) بالمئة من المحكومين بالسجن، على خلفية تعاطي المخدرات.

من هنا، فان الاجراءات القانونية والامنية، لن تكون الحل الجذري والأساس لهذه المشكلة، وبالنسبة للوضع في العراق، يذهب البعض الى ضرورة تشريع قوانين تجرم تعاطي الخمور، كما هو الحال بالنسبة للمخدرات، او الحديث عن تشكيل "شرطة مجتمعية"، تعضد التحريم الشرعي لتعاطي الخمور، في حين لا يجهل الجميع، أن تناول الخمور والمسكرات، شأنها شأن المخالفات الشرعية (المعاصي) التي ترتكب في المجتمع، لاسباب عديدة، وهنالك ظواهر لا تقل خطورة، مثل جرائم الاغتصاب والتحرّش الجنسي وجرائم السرقة وغيرها، وهي موجودة في اوساط المجتمع، يضاف اليها العنف الأسري، ففي جميع بلادنا التي تشكلت فيها هذا النوع من التخصص الامني، مثل "شرطة الآداب" او "الشرطة المجتمعية" وغيرها، لم تفلح في مكافحة هذه الجرائم او الحد منها، إنما هي اداة ردع لا غير. وهذا ما نسمعه بوضوح من لسان ضباط الشرطة في المخافر، او قضاة محاكم الاحوال الشخصية وغيرهم من مسؤولي الدولة، بان الدور الأهم على المؤسسات الثقافية والدينية والتربوية لايجاد الحلول الجذرية.

تضافر الجهود

مهما يكن من أمر.. فان ظاهرة تعاطي الخمور والمخدرات في العراق، تعد من الظواهر الجديدة وغير المتجذرة في الواقع الاجتماعي، وهذا بفضل الاجواء الدينية المكثفة والبرامج والفعاليات الثقافية والجماهيرية، لاسيما في مواسم الزيارات المليونية لإحياء ذكرى الإمام الحسين، عليه السلام، ومواسم الزيارات الاخرى المفعمة بالمشاعر الدينية والولائية والمشحونة بالمفاهيم الاخلاقية والانسانية، مثل العطاء والتضحية والإحسان ما من شأنه تنقية النفوس وتحفيزها على عمل الخير. بيد أن هذا لن يكون كافياً او "صك ضمان" لنا بأن لا نخاف ولا نحزن ..! ما دامنا امام بعض العوامل المساعدة والمشجعة على تعاطي الخمور والمخدرات.

فحسب احصائية للهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات في العراق لعام 2010 جاء ان عدد المدمنين المسجلين في العراق يبلغ (14) ألف مدمن، بينهم أكثر من ألف طفل تتراوح اعمارهم بين (10-14) عام في محافظة بغداد لوحدها. وحسب المصدر نفسه فان نسبة (17%) من متعاطي المخدرات هم من فئة الشباب، وحوالي (20%) من متعاطي الكحول.

وكما اسلفنا بدايةً، فان هشاشة الوضع الاجتماعي وفقدان المنهجية والهدفية في الحياة، هو الذي يفتح  الطريق امام انتشار واستفحال هذه الظاهرة، بل يمكن الاشارة في هذا السياق الى رواج ظاهرة التدخين بين الشباب والفتيان، وتحديداً من طلبة المدارس، هو الآخر يمثل نوعاً من التمرد على الواقع ومحاولة الخروج من الشرنقة التي تصنعها عوامل عديدة، مثل التربية الخاطئة في البيت والمدرسة، والفراغ الروحي، مما يسبب عقداً نفسية متراكمة، وقد أكد العديد من الخبراء على أن التدخين يعد من أقصر الطرق للوصول الى المخدرات.

من هنا يستدعي الامر تضافر جهود المعنيين بأمر التربية الدينية والثقافية والأسرية، الى جانب انتباه مؤسسات الدولة الى شريحة الشباب، وعدم الاستخفاف باستحقاقاتهم من قبيل تفعيل الرياضة والتشجيع على الفن بمختلف اشكاله، وتنمية المهارات والطاقات. فكما أن مسؤولي الدولة من شرطة ومحاكم وقضاء، لن ينجحوا وحدهم في حل مشكلة تعاطي الخمور والمخدرات، فان المؤسسات الدينية والتربوية والصحية، هي الاخرى غير قادرة على التأثير على الشباب وثنيهم عن المضي في هذا الطريق اذا كان الوضع الاقتصادي والسياسي يتجه الى المجهول واللاهدفية، بحيث لا يعرف الشاب طبيعة المستقبل الذي ينتظره.

فاذا كانت وجهة المدمن الى المراكز الصحية – مثلاً- فان العلاج لن يكون جذرياً ونهائياً، إنما بحاجة الى وقت طويل للشفاء، كما هو حال الاصابات والامراض العادية، بينما الادمان على المخدرات والكحول، لها تأثيرات على خلايا الجسم ليس من السهل ازالتها. وهذا يؤكده الدكتور صافي داخل، أحد الاطباء الاخصائيين في مدينة كربلاء، خلال ندوة عن الادمان، بان "حالة الادمان تعبر عن اصابة المدمن في الدماغ بمرض قابل للانتكاس وحسب التعريفات، فهو مريض عقلياً، لذا فان من الصعب معالجة المدمن، وهناك نسبة ضئيلة تقدر من 2 الى 3% من الذين يتعافون، فمن الضروري ان تبدأ التوعية بشكل مبكر".

من هنا؛ اذا كانت سلامة الفرد، والشاب اليافع خصوصاً، مما يبحث عنه المجتمع ويحرص عليه، فان توفير كل وسائل الردع والحماية الذاتية وتفعيل البرامج والمناهج البناءة، ابتداءً من داخل الأسرة، ثم المحيط الاجتماعي وعلى صعيد الدولة، هو الذي يشكل الدرع الواقي امام انتشار آفة الإدمان او حتى تعاطي وتناول الخمور والمخدرات، والنجاح في هكذا مشروع، يعد اليوم من ابرز الانتصارات في عالم اليوم، حيث تنتشر الظاهرة في معظم دول العالم، لاسيما في منطقة  الشرق  الاوسط. وأي بلد يحقق اكبر نسبة نجاح في هذا الطريق، هو الاوفر حظاً في التقدم والتطور.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16/حزيران/2014 - 17/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م