شبكة النبأ: كانت المدينة قد سقطت.
جئنا الى نافذة منزل يجرنا رجل مجنون. اشرقت الشمس الغاربة على بضع
مكائن لا جدوى منها متروكة، قال أحدهم "اني اتذكر كيف كان بإمكان المرء
في العصور الغابرة ان يحول ذئبا الى انسان ثم يلقيه كمحاضرة كيفما
يشاء. "تشارلز سيميك".
تعددت الاراء والتحليلات والاستنتاجات حول ما حدث من سقوط الموصل
وتكريت ومدن اخرى قاب قوسين من ذلك، وهذا التعدد تبعا لمرجعيات فكرية
وثقافية وسياسية تحكم اصحاب تلك الاراء ولا يمكن ان يحيدوا عنها.
الجانب الحكومي ارجع ما حدث الى غدر وخيانة، والى اجندات خارجية لها
حواضنها في الداخل، معارضو الحكومة والذين هم في صلب اجهزتها ومناصبها،
اتهموا القيادة العسكرية التي يتزعمها رئيس حكومتهم بانه السبب وراء ما
حدث نتيجة سياساته الخاطئة.
اخرون تحدثوا عن الفساد المالي في المؤسسة العسكرية، قيادات كبيرة
وضباطا صغارا، وغيرهم تطرق الى اسباب لا تسمي الاشياء باسمائها، او
طائفية تدور حول الخطوط العامة ولا تدخل الى تفاصيلها.
ماذا عن مقاربة اخرى لما حدث ويحدث وسوف يحدث، مع داعش وغيرها، او
مع السياسي الفلاني وغيره؟.
المقاربة التي اقترحها هي محاولة لتعرية المضمر والذي يختبيء في كل
مفصل من مفاصل حياتنا، يكون السياسي فيه (فعلا او اشخاصا) هو البارز
والظاهر للعيان دون غيره، لما لهذا السياسي من طغيان في حضوره وهو
يتحرك تحت الاضواء والمجسات الاعلامية المختلفة.
المقاربة المقترحة تدور حول (الفساد) ولا اعني به الفساد المالي دون
غيره، بل هو الفساد العام والذي يشمل كل شيء في حياة الانسان، كفرد او
مجموعات، شعوبا ودولا.
جميع الدول التي تمر بمخاضات صعبة تعيش ما يعيشه العراق بصورة واخرى
(ليبيا – مصر – سوريا – اليمن) ودول اخرى قد يحدث فيها ما حدث في
العراق، ومرد ذلك ان تلك المخاضات نتائج لمراحل سابقة من الفشل في بناء
الدولة الوطنية، وفي تغول الاستبداد، وفي غياب الحقوق، وفي استشراء
الظلم وفقدان العدالة الاجتماعية، وهو (الفساد) الذي اعنيه نجد له تلك
الدلالات الواسعة في المعجم العربي، فهو (التَّلَفُ والعَطَبُ -
الاضطراب والخلل - الجدب والقحط والكوارث - وإلحاق الضَّرر - ومجاوزة
الصوابَ والحِكمة - وسلوك أو عادات شرِّيرة أو خبيثة - و لهو ولعب -
وأخذ المال ظلما). وهو كما ترى شامل وعام يحيط بكل مفردة في حياة
الانسان، والفساد المالي لايعدو كونه واحدة من تلك الشمولية والعمومية.
الاستبداد اصل لكل فساد، هكذا كتب عبد الرحمن الكواكبي في كتابه
(طبائع الاستبداد).
خارطة الفوضى الحالية تكشف لنا عن عمق المأزق الذي تعيشه الكثير من
البلدان العربية، فهي جميعها عانت من حكم المستبدين لها لعقود طويلة،
اوصلتهم الانقلابات العسكرية الى سدة الحكم، وانشغلوا بالامن على حساب
الحريات والحقوق لمواطنيهم، وكان هذا الامن لا يعدو كونه وسيلة من
وسائل حفظ النظام السياسي والمحافظة عليه، مما ادى بالضرورة الى كبت
وقمع كل ما من شانه ان يكون مفارقا لهذا الامن الجمعي.
هذا الاستبداد، وهذا القمع والكبت المتواصل، اوجد حالة من الخوف
المستديم في نفوس المواطنين في كل بلد من تلك البلدان، والخوف القامع
بالضرورة يؤدي بالافراد الى سلوكيات ويجترح اخلاقيات جديدة، تتماهى معه
حفاظا على حياتهم وتامين معيشتهم، فكان الكذب والنفاق والتملق والتقلب
بين حالة واخرى رغم شدة التناقض بينهما، سلوكا طبيعيا لمثل هؤلاء
الافراد، ولتلك المجتمعات.
لعل العراق هو المثل الابرز لنتائج الاستبداد والفساد الذي نخر فيه
بسببه، فهو عام شامل يتنقل من القاعدة (الجماهير) الى القادة جميعهم،
ويبتكر القادة اساليب جديدة تتعلمها تلك القواعد وتعمل بها، فساد
اخلاقي واجتماعي وثقافي، موجود في المؤسسات السياسية والثقافية
والاجتماعية والاعلامية، وهو تعبير صارخ عن فساد كل السلوكيات
والاخلاقيات التي تجعل من الجماهير يصطفون خلف قادتهم حتى بعد ثبوت عدم
جدارتهم لتلك القيادة، متوسلين بهذا النفاق والاكاذيب والتملق، بما
يمكن ان اسميه (التخادم المصلحي) للجميع على حساب الجميع. |