شبكة النبأ: لا يقتصر معنى التاريخ
على ما حفظه من أحداث ماضية هي نتاج الانسان وحركته الدائبة في الزمن،
سعيا وعملا على إحداث الفرق بين لحظة سابقة وأخرى لاحقة.
انه ابعد من ذلك، فهو اكتشاف المعرفة للحاضر والمستقبل، وهذا ما
تعمل عليه فلسفة التاريخ، بعد قراءة المدونات الماضية.
يتوزع مصطلح التاريخ على معنيين اثنين تبعا لاستخداماته:
فهو مضمون ومحتوى المادة التاريخية التي وصلت الينا، أو هو في
المعنى الثاني، كيفية وطريقة تعاملنا مع هذه المادة.
هناك من يرى ان هذين المعنيين يستبطنان ازدواجية ادت الى خلط في فهم
المعنى من مصطلح التاريخ، حيث هناك تفريق شائع (بين كلمة التاريخ
كتعبير دال على مسيرة الإنسان الحضارية على سطح كوكب الأرض منذ الأزل،
وعبارة تدوين التاريخ كتعبير عن العملية الفكرية الإنشائية التي تحاول
بإعادة تسجيل وبناء وتفسير الإنسان على كوكبه).
ما هو التاريخ؟
انه تحليل وفهم للأحداث التاريخية عن طريق منهج يصف ويسجل ما مضى من
وقائع وأحداث ويحللها ويفسرها على أسس علمية صارمة بقصد الوصول إلى
حقائق تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
اضافة الى تعريفات اخرى، اجترحها بعض المهتمين في الدراسات
التاريخية من الغربيين مثل كولينغوود الذي يعرف التاريخ بانه (الماضي
الذي يقوم المؤرِّخ بدراسته، لكنَّ هذا الماضي ليس ميتًا، ولكنَّه
بمعنى ماضٍ لا يزال يعيش في الحاضر).
وتعريف إدوارد كار (التَّاريخ هو عمليَّة مستمرَّة من التَّفاعل بين
المؤرِّخ ووقائعِه، وحوار سرمدي بين الحاضر والماضي، ولماذا لا نقول مع
المستقْبل؟ لأنَّ الزمان التاريخي هو ثلاثي في طبيعتِه الأصليَّة: ماض
حاضر ومستقبل، زمن مسترسل).
في حين يعرفه هيغل بانه (عمليَّة عقليَّة منظَّمة وخلاَّقة لظهور
قيم جديدة، لكنَّ التَّاريخ هو ليس الماضي والحاضر فقط، بل إنَّه
المستقبل أيضًا، مستقبل الإنسانيَّة الحرَّة).
ويعرفه فرناند بروديل بانه (الإنسان والباقي، وإنَّ كلَّ شيء تاريخ:
الأرض والمناخ. التاريخ علم للإنسان، لكن شريطة أن تكون علوم الإنسان
بِجواره، والتَّاريخ أداة لمعرفة الإنسان في الزَّمان عبر المكان).
بينما يؤكد برودويل من خلال مدرسة الحوليات التاريخية على الاهتمام
بالتاريخ في شموليته، اي علاقة التَّاريخ مع ما يُحيط به من سياسة
ومُجتمع، واقتصاد والذهنيات.
اهتم المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) بالتاريخ،
علما وفلسفة، وابدع كتابه (فلسفة التاريخ) الذي ضمنه خلاصة فهمه لهذا
العلم وهذه الفلسفة.
التاريخ عند الامام الراحل هو (الأحداث قبل أن تقع.. هي بانتظار
اللحظة التي ستقع فيها، ولحظة وقوعها تدخل في مكونات الحاضر، وعندما
يمر زمان على وقوعها، تصبح شيئاً مـن الماضي؛ وهذا هو التاريخ).
ولما كان الامام الراحل، فقيها ومرجعا دينيا لعقود طويلة، يتعامل مع
الفقه ومسائله، فانه افرد حيزا في كتابه لارتباط الفقه بالتاريخ، وهو
(ارتباط وثيق لا انقطاع له)، فهو اي الفقه، لم يكن ثم وجد ثم مرَّ عليه
الزمن لا بمعنى انعدامه كانعدام الإنسان والحيوان بل بمعنى مرور الزمان
عليه.
وكلمة التاريخ في ارتباطها بالفقه، لا تعني المعنى المتداول للتاريخ
بل بمعناها الفلسفي، أي ليس بمعنى انقضاء العمل بالفقه، بل (يؤخذ به
إلى قيام الساعة؛ لأنّه حقيقة يريدها الله سبحانه وتعالى للبشر حتى
انقضاء أجلهم المكتوب لهم على هذه الأرض).
وهذه العلاقة ايضا، يصدق عليها كون الفقه جزئي من جزئيات التاريخ،
لكنّه جزئي معنوي كسائر المعنويات، ينطبق عليهما (الفقه والتاريخ)،
ومرور الزمان، على كليهما.
معرفة العلاقة بين التاريخ والفقه يسجل الامام الراحل لها عدة
منافع:
تطوّر الفقه على مرور الزمان، وهذا هو علم من العلوم، ونستطيع أن
نسمّيه بـ (تاريخ التشريع الإسلامي أو تاريخ الفقه الإسلامي).
وقوع الفقه ضمن ظروف واقعية، حيث شرعت الأحكام وفق الظروف الموضوعية
لحياة الناس في ذلك الزمان، فمعرفة هذه العلاقة. بين التشريع والواقع
أو الفقه والتأريخ، تكشف لنا الظروف الطارئة والعوامل المؤثّرة في
مراحل التشريع في الحكم الواحد، الأمر الذي يجعلنا قادرين على الأخذ
بها في المستقبل إذا كانت الظروف الحاضرة لا تتناسب مع الأخذ بها.
إننا عندما ندرس التاريخ الفقهي، سنلاحظ منحى القوة والضعف في هذا
التاريخ، سنجد هذا المنحى يرتفع في بعض الأوقات، ويهبط في أوقات أخرى.
في كتابه يقيم الامام الراحل تفريقا بين علم التاريخ وفلسفته، ويعد
ذلك من ضروريات الباحث في التاريخ، فالعلم هو (المفردات أو المجموعات
السطحية الظاهرة من اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو تربوية، أو
ما أشبه). اي انها القشرة الخارجية او الجسد العام لتلك المفردات،
بينما فلسفة التاريخ هي الروح العامة الدارجة في كلّ تلك المفردات وفي
أي بعد من أبعاد الحياة.
وموضوع التاريخ بما هو تاريخ علم مستقل، ولمجموع احداثه وتحليلها
يدخل في نطاق الفلسفة، فـ (المؤرّخ إنّما يؤرّخ للذين دخلوا التاريخ،
ولعبوا دوراً فيه، وحرّكوا مساره، سواء دخلوا التاريخ للإفساد كفرعون،
وهتلر، وستالين، أو دخلوا التاريخ للإصلاح، كما فعل الأنبياء
والمصلحون). |