في التغيير الذاتي.. التوكل على القدرة اللامتناهية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: كل إنسان طموح لتحقيق الأفضل في حياته يسعى جاهداً لتجاوز العقبات متسلحاً بالقوى والإمكانات المتاحة للوصول الى مبتغاه، وفي عصر السرعة، حيث التطور في العلوم، والتحول في الأنماط والقناعات، يجعل الكثير من المتفاعلين في هذه الاجواء لأن يحجزوا لهم مكاناً يثبتوا فيه وجودهم ويقدموا ما لديهم من منجزات في الفكر والثقافة والعلوم ومجالات شتى.

هذه الوتيرة في مسيرة العمل والإبداعوالإنتاج، تجعل الكثير لا يروا سوى انفسهم وما يمتلكوا من قدرات وإمكانات، وإن لم تكن بالمستوى المطلوب، فما لدى الآخرين من امكانات مادية او قرب الى الجهات الحكومية العليا او غير ذلك، يعطيه بعض الأمل وقوة القلب بأنه لن يتخلف عن ركب التطور والتحول. بمعنى أنه يعتقد ان اعتماده على هذا النوع من القوى والإمكانات هي التي تمكنه من تحقيق طموحاته في الحياة.

هنا يأتي دور "التوكل" على القدرة اللامتناهية في الحياة لتساعد الطامحين نحو العلا وتحقيق السعادة والتطور. فاذا كانت الطموحات والأهداف كبيرة بحجم التطور العلمي والتقدم الصناعي وتحقيق الرفاهية في العيش والحياة الحرة الكريمة وغيرها، فمن الطبيعي أن تكون القوة المساندة، بمستوى هذه الطموحات، مما يمكن الاتكال عليها – إن صح التعبير- ولا تخذله بأي حال من الاحوال.

وقد كتب العلماء والمفكرون الإسلاميون، الكثير عن مفهوم "التوكل على الله"، كونه يمثل نقطة ارتكاز في الحياة العملية الناجحة، تجتمع عندها المفاهيم والقيم المتعلقة بالجانب العملي للإنسان، فربما يكون الإنسان في حياته، مؤمناً حقيقياً وصابراً وزاهداً وخلوقاً، لكن نجد توكله "أرضياً" لا "سماوياً"، فلا يجد النجاح في حياته مهما فعل. لذا يؤكد سماحة المرجع الديني الراحلالامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- على هذا المفهوم في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين"، وإدراجه ضمن المقدمات الاساسية للتغيير.علماً ان سماحته، وفي الكتاب نفسه يشير الى "الاعتماد على الذات"  كأحد عوامل التغيير الشاملة والحقيقية. وفي مكان آخر يؤكد على ضرورة البحث عن القدرات الذاتية وصقل المواهب والاستفادة من الكفاءات والمهارات. وفي هذا الفصل من كتابه، يؤكد على "التوكل على الله سبحانه، في كافة الامور، صغيرها وكبيرها، فمن يتوكل على الله فانه يكفيه ما أهمه..". بمعنى أن من يروم المعالي وتحقيق كامل اهدافه في الحياة، عليه الاتكال على القدرة اللامتناهية التي لا تخذله وسط الطريق.

لماذا التوكل على المحدود؟

بيد أن المشكلة التي نواجهها، في البعض الذي يجد في الاتكال على مصادر القوة التي يعتقد انها تساعده في تحقيق ما يريد، سواءً القوة المالية او السياسية او الوجاهة الاجتماعية وغيرها..مما يدفعنا للتساؤل عن سبب هذه النزعة؟.

ربما هنالك مشاكل نفسية او روحية تدفع البعض الى هذا الخيار، والتخلّي عن الجانب المعنوي، ظناً منهم أن استحصال الإمكانات والقدرات المادية الملموسة والسريعة تفي بالغرض اكثر من غيرها. وثمة سببين – من جملة أسباب وراء ذلك:

الأول: الخوف من الفشل

هذا الخوف والهاجس من الفشل والهزيمة في الحياة، تلازم الكثير من الطامحين والعاملين في شتى المجالات.. فهم يبذلون قصارى جهدهم الذهني والعضلي، ويبدعون ويعملون، لكنهم مسكونون بالقلق والاضطراب، حتى وإن بلغوا النجاح وحققوا شيئاً من طموحاتهم، لا يشعرون بلذة النصر والنتيجة النهائية. وللتهرب من هذه الحالة، نجد البعض يكرّس جهده لتوفير القدر الاكبر من القدرات والامكانات التي تضمن له احتمالات النجاح. وما حالات الاعتداد المفرط بالنفس، والتقوقع وحب الأنا والغرور، وكل مفردات الذاتية، إلا تفسير واضح لغياب التوكل على القدرة اللامتناهية التي يمكن لأي انسان الاعتماد عليها والاستعانة بها في ملماته ومسيرة حياته، مع توفير شروطها – طبعاً-.

وهنا يكون استبدال التوكل على الله، والاستعانة بتلك القوة العظيمة، بالتوكل على القدرات الاخرى في الحياة، رغم وضاعتها ومحدودية أثرها، بل وسرعة نضوبها. مما يؤدي في نهاية المطاف الى عودة الانسان الى مربعه الاول، وحالة الخوف وهاجس القلق من القادم، فمثله، مثل السيارة التي تطوي المسافات البعيدة في الفيافي والصحاري، وبسرعة فائقة، لكن بعد فترة من الزمن تتوقف عن الحركة بعد انتهاء الوقود.

حالة الاضطراب واللااستقرار هذه، يعالجها سماحة الامام الشيرازي بإشارته الى فائدة التوكل على الله – تعالى- على أنه يوفر السكينة والاطمئنان للنفس، وبصريح الآية الكريمة بذلك: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. وفي القرآن الكريم اكثر من آية تدعو الانسان للتوكل على الله، تعالى، حصراً واستمداد القوة منه لا من غيره. وفي غير سورة قرآنية جاءت الدعوة مكررة: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، و {على الله فليتوكل المتوكلون}.

الثاني: الشعور بالإحباط

الاجواء المشحونة بالسلبيات والمنتجة لمشاعر الاحباط واليأس، من شأنها ان تدفع البعض نحو أي بصيص أمل، ولو صغير، للاعتماد عليه كمنفذ ومخرج من النفق المظلم. أما الحديث عن الاعتماد والاتكال على الجانب المعنوي، فانه يبدو بعيد المنال، ويحتاج الى طول أناة وصبر، يتعذر وجوده في هذا البعض لما فيه من توتر وتشنج بسبب سوء الاحوال الاقتصادية والسياسية وحتى النفسية. فيتصور البعض أن قوة المال والسلاح والجاه، قادرة على انتشال الإنسان والمجتمع، بل وشعب كامل من حالة الإحباط الكامل، الى رحاب القوة والاقتدار. بينما العكس ما لاحظناه في تجارب عديدة لشعوب وأمم خلت، حاولت الاعتماد على قدراتها المالية او امتيازاتها في الموقع الجغرافي المهم. لكنها ما تزال تعيش الهزيمة النفسية أمام الاقوى عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً.

ويذكر سماحة الامام الشيرازي، حكايات عديدة في هذا المجال لمن توكل على الله – تعالى-فأحرز النصر، منها امثلة عن اشخاص تعرضوا للاعتقال والتعذيب ثم الحكم عليهم بالإعدام، ثم أفرج عنهم بشكل مفاجئ، لذا يذكرنا بأن "الانسان لا يعلم مصدر التغيير، لربما يأتي من اسباب خارجة عن ارادته..".

وربما يكون السقوط المدوي لنظام صدام في العراق، مثلاً بارزاً على وجود القوة الخارجة عن ارادة الانسان، وتفعل ما عجز عنه لسنوات طويلة. فقد كانت الآمال طويلة وعريضة، والجهود مبذولة لتحقيق هذا الهدف، حيث كان الشعب العراقي، - بالحقيقة- يعيش في سجن كبير مليء بالمعتقلين، مع اختلاف المستويات والاماكن. فجاءت ساعة الحسم ليتم إطلاق سراح الجميع.

الهروب من الفشل والسقوط في الهزيمة

نعم؛ الاقتصار على القدرات الذاتية او الاستعانة بقدرات الآخرين، يحقق بعض الانجازات الآنية، لكن لا تلبث ان تزول كالسراب، فيدرك الناس انهم لم يتجاوزا مرحلة الفشل والإحباط والهزيمة النفسية، إنما سقطوا في هزيمة حقيقية. لأن التوكل هنا، أصبح كاملاً لا رجعة فيه، على قوة المال والمخابرات والسلاح والإعلام وغيرها، وكلها قادرة على التغيير – لامحالة- لكن أي تغيير..؟، هل بحجم ما تطمح اليه الشعوب في الوقت الحاضر؟، أم انه وفق مقاسات وأهدافأصحاب تلكم القوى والقدرات..؟!.

عندما يتحول مفهوم "التوكل على الله" من حالة فردية يؤمن بها الإنسان لوحده، الى حالة اجتماعية يؤمن بها الجميع، او الغالبية – على الاقل-، فانه يفعل المعجزات ويغير المعادلات، لأنه ربط الشعوب بقدرة لا متناهية تساند وتدعم الحراك الجماهيري، وأي جهد مبذول في الميدان، يكون مسدداً ومثمراً.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/حزيران/2014 - 8/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م