ثقافة هشة.. مجتمعات هشة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: لكل بناء حجر زاوية، أو مرتكَز، أو عمود يستند إليه البناء، والمرتكَز الذي تستند إليه المجتمعات في بنائها ورسوخها وثباتها، هو الثقافة، لذلك يقرّ المعنيون أن الثقافة إذا كانت هشة، فإن المجتمع سوف يكون هشا أيضا، والسبب هو التأثير الكبير للأنساق الثقافية في رسم شبكة العلاقات المجتمعية، وتداخلها مع منظومة القيم التي تحكم أنشطة وعادات وأعراف المجتمع، الأمر الذي ينعكس على طبيعة الحياة في المجتمع.

وعندما تفشل الثقافة في وضع الأسس السليمة للبناء المجتمعي، فهذا دليل قاطع على أن الثقافة نفسها بحاجة الى تغيير، لذلك سيبقى المجتمع يعاني من العادات والتركة الثقيلة التي تحكم نشاطاته، وافكاره وخطواته العملية التي غالبا ما تتسم بالجمود واللاتغيير، تبعا للثقافة المنخورة من الداخل، والعاجزة عن القيام بدورها في تطوير المجتمع، وفرض اشتراطات التجديد عليه، بما يتماشى وواقع العصر ومواكبة ما يستجد ويستحدث في مجالات الفكر والعمل.

حتى الجوانب الاقتصادية، وعجلة الانتاج، تتأثر على نحو غير مباشر بالثقافة الهشة، فمع أن الاقتصاد ليست له علاقة مباشرة مع الثقافة، إلا أنها تنعكس في تأثيرها على طبيعة الانتاج، ومفردات الاقتصاد كافة، فالعامل المثقف على سبيل المثال هو غير العامل الجاهل، ليس من حيث درجة المهارة في العمل، وإنما من حيث مستوى التفكير الذي ينعكس على الانتاج من خلال التطور الذهني والثقافي للعامل، وهكذا تنعكس المؤثرات الثقافية بصورة غير مباشرة على حركة الاقتصاد ومستوى الانتاجية من حيث الكم والنوع.

جميع مجالات الحياة التي تتعلق بمجتمع ما، لها ترابط مع الثقافة، فمن غير الممكن أن نفصل بين الثقافة والمجتمع، وبين الثقافة والحياة، وعندما يكون الطبيب مثقفا على سبيل المثال، فإنه سوف يقدم طريقة علاج افضل للمرضى، ويتعامل معهم بحس انساني عالٍ، يقترن ويوازي قدراته العلمية في الطب، وخبرته العملية في التعامل مع العمليات الجراحية التي يقدمها للمرضى، وهكذا نلاحظ انعكاس الثقافة على عمل الطبيب بصورة غير مباشرة، ولكنها مؤثرة في طبيعة ودرجة ما ينتج عنه أثناء تأدية عمله.

الثقافة تدعم الكفاءات في المجتمع، وتحميها من الاقصاء الذي تتعرض له في المجتمعات ذات الوعي الثقافي المتدني، بمعنى أوضح عندما يكون المجتمع مثقفا، بكل قياداته ومؤسساته الحكومية وسواها، فإن التعامل مع الكفاءة سيكون عادلا، بل المسؤول الحكومي المثقف، لا يمكن أن يجازف بتهميش الكفاءة، في حين يعمل السياسي او المسؤول الجاهل على طرد الكفاءة، وخلق الحجج والظروف الطاردة لها، وهذا هو سبب تهجير العقول والمواهب المتميزة من المجتمعات ذات الثقافة الهشة، الى المجتمعات التي تجد في الكفاءات فرصة لاستثمارها لصالح شعبها!.  

ولذلك تتعامل المجتمعات المتقدمة مع الثقافة، كعامل أساسي لضمان تطور المجتمع والحافظ على قيمه الاصيلة، تماما كما هي دعوة الدين لبناء الانسان، فالثقافة والدين كلاهما ينزعان الى تهذيب الانسان وتطوير قدراته، وحمايته من الأخطاء المقصودة وغيرها، لذلك يرى المعنيون أن الثقافة تمثل الضامن الرئيسي الوحيد لتحضر الأمم، والمظهر الأكمل للرقي والازدهار، والعامل الديناميكي الوحيد الذي يستطيع تحرير الانسان، وإنقاذه من حالة الرتابة والجمود والكسل. فهي إذن لا تختلف في مفاهيمها ومنطلقاتها ودلالاتها عن الدين في رسالته الجوهرية، إذ يدعوان كلاهما الى التربية والتهذيب والاخلاق، والى إعادة بناء الفرد والمجتمع الحضاري الصحيح. 

لهذا السبب يرى المعنيون أيضا، أن الثقافة تمثل الكينونة التي تنصهر في بوتقتها، كلاً من العقائد، والفنون، والاخلاق، والقوانين، والعادات، والاعراف الاجتماعية، والموروثات القبلية، كما تعتبر أداة لإبراز القدرة الانسانية، لحد يمكنها من تصنيف وتمحيص الخبرات، وتسخيرها لإحداث ردات فعل إبداعية وخلاقة، لذلك يكمن خطر الثقافة عندما تكون هشة في انعكاس ذلك على المجتمع، من هنا فإن الثقافة الهشة تقترن بالمجتمع الهش، كلاهما يؤثران في بعضهما بصورة متبادلة، لذلك اذا اردنا أن ندفع بالمجتمع الى ارتقاء سلم التقدم، لابد أن يقوم ذلك على ثقافة لا هشة، متينة البنيان والرؤى والمبادئ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/حزيران/2014 - 4/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م