الحسين (ع).. درس متجدد في التضحية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: التضحية بالنفس، أمرٌ مؤلم ويبعث الروع في قلب البعض، كما هو مبعث ارتياح وسرور في نفس البعض الآخر، عندما يعرف الانسان المضحي إن تضحيته هذه ستؤدي الى انقاذ جموع من الناس من الجهل والضلال والحرمان. لذا نلاحظ مقبولية لهذا المفهوم حتى لدى الشعوب التي تعتقد بوجود عالم آخر بعد الموت، وأن هنالك جزاء لهذا المضحي ومكافأة، وهذا ما لاحظناه في الحروب الضروس التي شهدها العالم في القرن الماضي، حيث تمجّد الشعوب أبطالها الذين سقطوا في سوح المعارك دفاعاً عن الوطن والانسان امام قوى الاحتلال. كما شهدت بلادنا الاسلامية العديد من حروب التحرير، سقط فيها الآلاف من الشهداء، ولعل افغانستان في مواجهة الاحتلال السوفيتي، والجزائر في مواجهة الاحتلال الفرنسي، تكون من الامثلة البارزة.

الى جانب هذه النماذج، ثمة نموذج يقدمه لنا الامام الحسين، عليه السلام، الذي نحن نحتفي بذكرى مولده العطر في الثالث من شهر شعبان المعظم، وهو التضحية من اجل القيم والمبادئ التي إن حُفظت من الانتهاك، تمكن الانسان من العيش الكريم على مدى أجيال متعاقبة. فهنالك الحرية والعدالة الانسانية والفضائل الاخلاقية.. تبحث عمن يدافع عنها في مواجهة الكبت والظلم والفساد الذي لا يماري أحد في سرعة انتشاره لانه يساعد - في معظم الاحيان- على تحقيق المصالح الذاتية، ابتداءً من الفرد العادي، وتدرجاً نحو مراقي السلطة والحكم.

إن الإمام الحسين، عليه السلام، قضى حوالي عشر سنوات، إماماً وخليفة شرعي من قبل السماء بعد اغتيال شقيقه الحسن، عليه السلام، بيد انه لم يرى في مرآة الذات، سوى ذلك القتيل المضمخ بالدماء على رمضاء كربلاء، علماً أن افراد المجتمع والامة، آنذاك كانت تنظر اليه على أنه الطامح الى الخلافة لا محالة، استناداً الى المعادلة السياسية الواضحة، حيث يفترض أن يكون هو الخليفة وفق معاهدة الهدنة  التي وقعها الامام الحسن ، عليه السلام، مع "معاوية"، وهذا ما دفعهم لنشر المقولة الشهيرة: "ما لنا والدخول بين السلاطين"..!؟.  

هذا التصور المغلوط عن شخصية الامام الحسين، عليه السلام، كان لابد من تصحيحه، وإعطاء درس بليغ، خالد مع الزمن للاجيال والإنسانية، بأن السلطة والجاه والامتيازات اذا كانت في طريق تطبيق القيم والمبادئ، فانها حقيرة ووضيعة، ولا أدل على ذلك، الندم العظيم الذي ما بعده ندم، عندما انتهت معركة الطف، واكتشف عدد من المتخلفين عن ركب الإمام، ومن ردّوا دعوته بالنصرة. فهؤلاء وجدوا الحرية والعدالة والكرامة الانسانية في طريق آخر لايصطدم مع الركون الى الحاكم الظالم، وممارسة الفساد، لذا لم يجدوا الحاجة الى التضحية، لان ببساطة يجدون كل شيء على ما يرام.  

إن الحسين لم يضح فقط بابنائه والخيرة من اصحابه، وحتى بالطفل الرضيع، إنما ضحّى بمكانته ومنزلته، فقد تعرّض الامام للاتهامات، ابرزها ما جاء في لسان شيخ الافتاء في ذلك الزمان "شريح القاضي"، الذي اختلق حديثاً كذباً على النبي، يعطي الشرعية لقتل الامام الحسين عليه السلام. فحتى بعد استشهاده، كان السواد الاعظم من المسلمين في الكوفة والشام والبصرة والمناطق الرئيسية في الدولة الاسلامية، تتصور أن الامام، فعلاً كما صوره الاعلام الأموي، خارجاً عن الدين، و"قد شقّ عصا الطاعة.."، وعندما كانت قافلة السبايا في طريقها الى الكوفة ومنها الى مدن عديدة ثم الشام، كان الناس ينظرون اليهم على أنهم ممن يستحقون السبي والتنكيل لأنهم واجهوا الخليفة والحاكم الشرعي..!.

بيد ان حجم التضحية في ابعادها الواسعة هي التي انقذت الناس من هذا النفق المظلم، فكانت الأسرة العلوية وفي مقدمتها الامام زين العابدين، عليه السلام، يحملون مشعل الوعي والهداية للناس ويكشفون الحقائق ويكسبون الآلاف ممن كانوا الى وقت قريب يتهجمهون عليهم وينعتوهم بأقسى الألفاظ.

نعم؛ هناك من يقدم على التضحية بماله ومكانته ثم بنفسه، فيصبح بطلاً لشعبه وأمته، ولا ضير في ذلك. بيد أن التضحية التي تشق أرض المسيرة وتترك أثرها البالغ في ثقافة ووعي الأمة، هي التي يبقى صداها وتؤثر في الاحداث وتصنع الواقع. لنلاحظ ثورات التحرير والانتفاضات الجماهيرية، إنما حققت نجاحها وانتهت بالنصر على أعدائها وأرست دائم نظام جديدة وحياة جديدة، عندما كان الرفض والإصلاح والتغيير، مشروع أسرة وجماعة ومجتمع، ولم يكن مشروع شخص واحد، ثم لنلاحظ اشخاص ضحوا بانفسهم واستبسلوا باطروحاتهم الفكرية ونظرياتهم، إلا ان استشهادهم كان نهاية لتلكم النظريات والافكار مهما كانت صائبة وحكيمة، نعم؛ يقرأها الشباب على مر الاجيال كإضاءات او ومضات فكرية ربما للترف الفكري، دون ان تترك اثرها على القناعات والمنظومة الثقافية السائدة.

وأجدني ملزماً بالاشارة الى تجربة الحركة الاسلامية في العراق في مواجهة النظام البائد، إذ لولا المدرسة الحسينية والمسيرة الزينبية، لما كان الشعب العراقي يواجه نظام صدام، - بكل غروره وادعائه بالهيمنة- في مواقف بطولية، منذ استيلاء حزب البعث البائد على السلطة، ثم الانتفاضة الشعبانية، فعندما يكون العمل في سبيل الله والتضحية من اجله موزع بين الأب والأم والأخ والابن والأخت، وتتبعها التضحية الجماعية ايضاً، يكون الانتصار الكبير والخالد. وكلما استمرت مسيرة التضحية هذه، احتفظنا بالقيم والمبادئ وعمقناها في الواقع أكثر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2/حزيران/2014 - 3/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م