حوكمة الثروات الوطنية

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: ثروات شعب ما، هي ملك لجميع أفراده ومكوناته من دون استثناء، ولا يحق للقوة أو السلطة أو الحاكم وحكومته، وأية جهة أو مؤسسة أخرى، الاستيلاء على الثروات أو جزء منها، تحت أية ذريعة أو مبرر، فلا الدين ولا الاعراف ولا القانون ولا القيم تسوّغ أو تسمح بالتطاول على ثروات الشعب!، لذا تعد الثروات خط أحمر، لا يجوز المساس او التلاعب بها، أو إصدار القرارات السلطوية التي تؤدي الى هدر الثروات وعدم حمايتها.

لذلك ينبغي أن تخضع ثروات الشعب أو الامة، الى (الحوكمة) المستمرة، وتدخل ضمن الحوكمة مجموعة الاجراءات النظرية والعملية التي تؤدي بالنتيجة الى حماية الثروات من التجاوز، وتساعد على وضع حد لعمليات الهدر التي تطولها، خاصة تلك التي تحدث من الجهات الحكومية، أو الجهات التي تمتلك قوة كبيرة، تدفعها للتجاوز على ثروات الشعب، وعندما تتعرض ثروات الشعب والامة للنهب، فسوف تتبع ذلك تداعيات خطيرة، منها انتشار التمايز الطبقي من حيث الدخل والغنى، وحصر الثراء لدى أقلية من المجتمع، فيما ينتشر الفقر والفقراء في الدولة التي لا تشجع على حوكمة الثروات بشكل دائم ودقيق، وتنمو ظاهرة فقدان الكرامة الاقتصادية التي تؤدي بدورها الى فقدان الكرامة الاجتماعية.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (أنفقوا لكي تتقدموا): (إن الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة الاجتماعية). ويؤكد علماء الاقتصاد، على الترابط الوثيق بين (الكرامتين) الاقتصادية والاجتماعية، ومساندة إحداهما للاخرى، علما أن الكرامة الاقتصادية لا يمكن تحقيقها، بعيدا عن الحوكمة.

كذلك من المخاطر التي يتسبب بها هدر الثروات هو عدم الاستفادة منها، حتى المبالغ التي يتم التجاوز عليها، غالبا ما يتم تهريبها وتستخدم في عمليات غسيل الاموال وما شابه، لذلك تذهب هذه الاموال هدرا من دون أية فائدة كونها تفتقر للشرعية، وغالبا ما تكون مرصودة ومحاصرة، لذلك بقيت الثروات شبه جامدة في معظم الدول الاسلامية والعربية، ولم يتم توظيفها لصالح الشعب.

كما يؤكد الامام الشيرازي هذه النتيجة عندما يقول بكتابه المذكور نفسه: (في الحقيقة هناك جمود هائل أصاب الثروة في بلاد الإسلام).

مزايا النظام والاقتصاد

الحوكمة هي جزء مهم من نظام الحماية للثروات، وبالتالي عندما تتوافر الثروة تكثر فرص التطور والاستثمار، وينمو الاقتصاد وتُبنى ركائز صحيحة له، يدعمه نظام دقيق، حيث التخطيط المسبق، والتنفيذ الدقيق، يؤدي الى نتائج مضمونة، بمعنى أوضح عندما تكون للفرد او المجتمع وفرة من المال، تكون هناك فرص أكثر للتطور.

لذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال قائلا: (كلما زادت ثروة الإنسان زادت إمكانات تقدمه). والحوكمة هي جزء من النظام الاقتصادي الذي تتبعه الحكومات الناجحة، لأنه الطريقة السليمة لتطوير الاقتصاد، من خلال حماية الثروات، وسد الثغرات أمام هدرها او التجاوز عليها، لأن طرق التحايل وعقد الصفقات الوهمية، وسبل الاختلاس، كلها تؤدي الى تسريب الثروات بلا طائل، مما يشكل خسارة فادحة للشعب، لاسيما الشرائح الفقيرة منه، لذلك لا مناص من انتهاج نظام اقتصادي يعتمد الحوكمة في مراقبة تصرف الحكومة او الافراد بالثروات العامة الخاصة بعموم افراد الشعب.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه نفسه: (لقد أصبحت الدنيا تسير ــ على الأغلب ــ تحت رعاية النظام والاقتصاد، فكل جماعة أو أمة أو شعب يفقد أحد الأمرين ينزل مستواه حتى يصل أسفل سافلين).

إن الحوكمة تحدّ من تسريب الثروات، من خلال الرقابة والمحاسبة القضائية العادلة والحازمة، اذا اقتضى الامر، إذاً هي جزء من حزمة القوانين التي تقارع التجاوز على المال العام، ولهذا تعمد إليها الانظمة المتقدمة كي تحمي ثروات الشعب من التسرّب والتجاوزات، علما أن المتجاوزين على الثروات تتضاعف لديهم نزعة الظلم والتجاوز والطغيان، بسبب كثرة أموالهم وقوة ثرائهم، حتى أنهم لا يحسبون أي حساب للقانون، بسبب قدرتهم على التعامل مع هذا الملف وفق طرق (الابتزاز والترغيب).

لذلك يؤكد الامام الشيرازي على: (أن الإنسان إذا استغنى طغى ولم ينفعه حينذاك إلا الشدة والخوف، ولكن لا خوف من القانون ولا شدة من السلطان).  

ثروات اليابان مثالاً

قبل اكثر من قرن.. كانت اليابان تعد من الدول الفقيرة، بسبب عدم اعتمادها على اجراءات الحوكمة كما تفعل الآن، الامر الذي أسهم في ضعف اقتصادها، وقلة ثرواتها، وعدم اعتمادها القوانين الاقتصادية الحازمة، فضلا عن افتقارها للنظام والحوكمة التي لم تكن فاعلة آنذاك في اليابان، لهذا كانت تعد من الدول الفقيرة، لكنها عندما تنبّهت لهذا الخلل الخطير، وصححت الامور من خلال الحفاظ على ثرواتها وحمايتها من النهب، واستثمارها بالطرق والاساليب الاقتصادية العلمية السليمة، اصبحت تهدد دول الغرب بصناعتها.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي بقوله: (اليابان غزت العالم بصناعتها مع أنها ــ قبل مائة سنة ــ كانت من الدول المتأخرة، إنها أخذت فجأة بالنظام والاقتصاد، ولذا أخذت في التصاعد حتى بدأت تهدد الغرب في صناعتها).

لذلك اذا ارادت الدول الاسلامية والعربية أن تتقدم، وتلتحق بالركب العالمي المعاصر، عليها أن تعتمد نظام الحوكمة، فتُخضع جميع المؤسسات الاقتصادية لهذا الاجراء، حتى تتم حماية ثروات الشعب من الهدر كما سبق ذكره، خاصة أن النظام والاقتصاد ينبغي أن يتدخل في مفاصل حياتنا اليومية والمستقبلية، وفق تخطيط إستراتيجي طويل الآمد.

لهذا السبب يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (اذا أردنا التقدم، علينا أن ندخل النظام والاقتصاد في جميع جوانب الحياة اليومية وغير اليومية).

علما أن استنساخ التجارب الاخرى في هذا المجال حرفيا، ربما لا يؤدي الى النتائج المرتقَبة أو المأمولة، بمعنى ينبغي أن تنطلق المعالجات والاجراءات بخصوص حماية الثروات وتطوير الاقتصاد، وتعميق النظام، وتفعيل اجراءات الحوكمة، وفقا لواقعنا نحن، وليس تبعا لواقع الآخرين.

كما يؤكد هذا الامام الشيرازي، قائلا في كتابه نفسه حول هذا الموضوع: (النظام والاقتصاد يجب أن يكونا من واقعنا، لا شيئاً يفرض علينا فرضا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2/حزيران/2014 - 3/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م