شبكة النبأ: الديكتاتورية؛ قبل ان
تكون ممارسة في السلطة، هي ثقافة تنمو مع الانسان منذ الصغر في محيط
الأسرة، وبين الوالدين والأخوة، ثم يتوسع الى محيط العمل، وعندما تنضج
الحالة ويستفحل الشعور بالاعتداد بالنفس غروراً، ثم عدم الحاجة الى
الآخرين، من بعدها يأتي دور هؤلاء الآخرين لأن يفرض نفسه عليهم سطوةً
وقهراً، مستخدماً في سبيل ذلك، كل الوسائل من أموال وجاه ومنصب
وامتيازات.
واذا كان هذا يصدق على الأشخاص، فانه قطعاً يصدق على الجماعات
السياسية الطامحة للسلطة والحكم، فكما تتمكن من خلق فرص النمو لصفات
اخلاقية تساعد على البناء والتعاون والمشاورة، فان بإمكانها شق الطريق
نحو الاستبداد والديكتاتورية. وكما تكون هذه ثقافة عند الإنسان الفرد،
فإنها كذلك ايضاً في الجماعة السياسية، متمثلة في الحزب او التيار او
حتى التنظيم الصغير، بل حتى في بعض الجماعات النقابية والاتحادية.
ربما يتصور البعض أن "الديكتاتورية" هي تعبير عن قوة الرجل الحاكم،
وربما – ايضاً- هذا ما يبرر بعض الجماعات لخلق الديكتاتوريين، من خلال
منهج تربوي خاص يستغرق سنوات، وبالنتيجة فان هذه القوة ستلقي بظلالها
الوارفة وثمارها على هذا الحزب او ذاك. بينما الحقيقة الماثلة أمامنا
تؤكد العكس، فاذا ساد حكم الاحزاب الديكتاتورية لفترة من الزمن، فان
سقوطها وانهيارها يكون مريعاً ومدوياً، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام
الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه: "السبيل الى
إنهاض المسلمين"، حيث يحذر السياسيين من مغبة الانزلاق في متاهات
السلطة الفاسدة، حيث يقول: ".. نرى في التاريخ أن كل عالم وكل حركة
اقتربت من السلطات، انزلقت على الأغلب ثم سقطت، وبالعكس نرى أن كل حركة
وكل فرد ابتعد عن السلطات كان في محل الاطمئنان".
لكن يبقى السؤال: لماذا تنزلق الأحزاب او حتى الاشخاص في مستنقع
السلطة الفاسدة؟، او بالأحرى ما الذي يدفعها الى ذلك؟.
يمكننا الاستفادة من هذا الكتاب القيّم لسماحة الامام الراحل للخروج
بنتيجة، ولو مختصرة، لكنها شاملة تفسر لنا سبب بروز هذه الظاهرة في بعض
الاحزاب في بلادنا، وذلك بقضيتين تضربان في عمق النفس الإنسانية، وتحكي
عن غلبة وقوة النوازع :
الأولى: حب المال
المكسب المالي يعد من اهم وابرز اهداف الاقتراب من قصور الحكام، بل
ان الحاكم الديكتاتور هو الذي يحاول دائماً استمالة الافراد والجماعات
العاملة في الساحة، لاسيما اذا كانت تحظى بنوع من التأثير و"الكاريزما"
في المجتمع، مما يجعلها عرضة لعدوى الديكتاتورية والاستبداد، وهذا ما
يحذر منه سماحة الامام الشيرازي، ابناء الحركة الإسلامية من مجرد
الاقتراب من القصر الجمهوري او مكتب الوزير او الرئيس او غير ذلك، لان
هذا – يقول سماحته- يوقع الحزب والجماعة السياسية في موطن الشبهة،
عندما تفوح رائحة الاموال والامتيازات.
وهنالك أمثلة كثيرة في التاريخ عن الذين اقتربوا من السلطان للحصول
على المكاسب، فكانت عاقبتهم كارثية، فهم باعوا انفسهم ودينهم مقابل
حفنة من الاموال.. لذا نجد التحذير من النبي الأكرم، صلى الله عليه
وآله، من مغبة ربط المصير بالحاكم بانه يؤدي الى استهلاك أي فرد او
جماعة وامتصاصه ثم رميه جانباً مهما كان: "إذا رأيتم العلماء على أبواب
الملوك فقولوا: بئس العلماء وبئس الملوك وإذا رأيتم الملوك على أبواب
العلماء".
ولا ننسى أن عنصر المال، لدى بعض الاحزاب الطامحة للسلطة، يمثل أولاً
واخيراً، عامل قوة واقتدار، ما يجعلها تقاتل للوصول الى المرتبة التي
تخولها الاستيلاء على اكبر قدر ممكن من الامكانات المالية في هذه
الوزارة او تلك المديرية او المؤسسة. وهذا لا يتحقق اذا كان هذا الحزب
او ذاك السياسي يرفع شعار القيم والمبادئ وسط طبيعة فاسدة في النظام
الحاكم، لذا يجد نفسه ملزماً بإلقاء كل شيء جانباً واللحاق حيث وصل
الآخرون!.
ثانياً: فقدان الحالة الاستشارية
إن حالة المشاورة بين اعضاء الحزب او الجماعة السياسية، يعد صمام
أمان من الديكتاتورية والاستبداد بالرأي، ومن أجل ذلك نجد اهتمام
الاسلام بمبدأ المشاورة، سواءً في القرآن الكريم او في الأحاديث
الشريفة، وهذا ما يؤكده سماحة الامام الشيرازي في كتابه الآنف الذكر:
"من الضروري أن يكون التنظيم استشارياً، لا استبدادياً، فالاستشارية ما
وضعت على شيء إلا سببت تقدمه وازدهاره، بينما الاستبداد ما وضع على شيء
إلا سبب تأخره وانهياره".
ولنا ان نقلب الامثلة العديدة في بلادنا في احزاب سلكت سبيل السلطة
وانفردت بها دون الآخرين، فكان فيها هلاكها بعد ان تسبب هلاك الناس.
ومن الأمثلة القريبة، حزب البعث في العراق الذي انتهج الاستبداد
والديكتاتورية في الحكم، وهذا النهج كان مدرسة لأعضائه الذين تسلقوا
مراقي السلطة، وفي مقدمتهم "صدام" الذي تحول من عضو بسيط في الحزب في
ايام شبابه، الى ديكتاتور فاشل في كبر سنّه. فربما يكون هنالك بعض
الساسة من بعض بلادنا يتبعون في مراحل خاصة من حياتهم السياسية، نمط
الاستبداد والديكتاتورية سعياً لتحقيق السطوة والسيطرة على الاوضاع
العامة في البلاد. بيد ان التوجه المادي والاستبداد والتقوقع يجعل من
الحزب والسياسي كالفيروس يأخذ اكثر مما يعطي ولا ينسجم مع غيره، فيسبب
الوباء والمرض والهلاك. الامر الذي يستدعي دائماً المكافحة والحذر.
من هنا نفهم أن الاحزاب السياسية التي يكون همها الاساس الوصول الى
السلطة والحكم، لن تنتج لشعوبها سوى حكاماً ديكتاتوريين من النوع
الرديء، بسبب قصر النظر وضعف الرؤية السياسية وتراجع التأييد
الجماهيري، وما الصدام الدائم بين شعوبنا وهذا النمط من الحكام إلا
صورة مصغرة لهذا المآل السيئ الذي تسقط فيه هذه الاحزاب. وهذه قاعدة
عامة تنطبق على الجميع، وغير مقتصرة على هذا البلد او ذاك، أو على هذا
الشخص او ذاك. انما هو طريق بدايته تنبئ عن نهايته. |