العقل المسلم وغياب الفاعلية الحضارية

في ملتقى النبأ الأسبوعي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في ملتقى النبأ الأسبوعي، ساهم منتدى الفكر الاسلامي المعاصر التابع لمركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث، بورقة حملت عنوان (العقل المسلم وغياب الفاعلية الحضارية) قدمها حيدر الجراح مدير المركز، جاء فيها:"العقل المسلم وغياب الفاعلية الحضارية" المهزوم في داخله لا يمكن له ان ينتصر في اي معركة، مهما جند لها من قوى واسلحة.

الناظر لواقع المسلمين اليوم في مشارق الارض ومغاربها، سواء في بلدانهم وعلاقاتهم مع بعضهم، او في علاقاتهم مع الاخرين، الذين يختلفون في الدين وفي الثقافة عنهم يلاحظون هذا الانحطاط والتراجع للمسلمين على مسرح العالم.

الهزيمة الذاتية ليست وليدة اليوم، او الامس القريب، انها تعود الى قرون طويلة، هل يمكن ان تعود للحظة الاختلاف الاولى، حول الخليفة او الحاكم، ام انها قد تعود الى لحظة التدوين الحديثي، ومنه ظهر الوضع والاختلاق، ام انها تعود الى لحظة استشراء هذا الوضع والاختلاق الذي غيب فضائل، ورفع من رذائل، بحثا عن شرعية لمن يرفعهم الواضعون الى موضع المدح الذي لا يستحقون، ام انها لحظة الانكسارات العسكرية الاولى، لخلفاء تخرجوا من مدرسة الحكم العضوض، ام انها تستوطن في لحظة الانتصارات غير المشرفة، ربما في قتال المعارضين لكل اولئك الخلفاء؟، وربما هي اسباب اخرى.

ابدأ من اللحظة الراهنة، واقلب بعض الصفحات، سأبتعد عن الارهاب والعنف والدماء، وسأقصر حديثي على بعض المحطات السياسية، والتي يختفي الدين او بعبارة أدق توظيفه خلفها.

الحالة المصرية والتوظيف السياسي للفتاوى في الانتخابات الاخيرة، وقبلها اذكر بفتوى من قبل محمود عامر، القيادي السلفي، تجيز توريث الحكم لنجل الرئيس الأصغر جمال مبارك.

وفي السباق الانتخابي بين مرشح التيار الإسلامي محمد مرسي والفريق أحمد شفيق، كان بارزا فتوى القرضاوي بضرورة انتخاب مرسي، وقال نصا "انتخاب مرسي سيرضي الله عز وجل، ومن لا يختاره آثم، وعلى كل مصري يخشى الله عز وجل وحريص على إرضاء ربه أن يختار مرسي، لأنه سيقيم العدل في الأرض".

في الانتخابات الاخيرة، خرجت فتاوى لصالح السيسي من جانب قيادات الدعوة السلفية وحزب النور السلفي، إذ طالب الدكتور ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية، الشعب المصري باختيار السيسي، لأنه لا يدخن السجائر ومتدين ويحافظ على الصلاة وقراءة القرآن، في حين أرجع حزب النور سبب اختيارهم للمشير بشكل أساسي لمحاربته الفكر الشيعي في مصر.

أما ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية، فقد أفتى فتواه الشهيرة بعدم جواز التصويت للتحالف الديمقراطي من أجل مصر.

وقال في نص الفتوى "إن التحالف الديمقراطي لم يأت لنصرة الدين والشريعة وإحقاق الحق ونصرة المظلوم كما كان حلف الفضول، وبالتالي يجب أن يكون الاختيار لمن ينصر الدين ويحافظ على الشريعة، والتحالف مع الليبراليين والعلمانيين الذين لا يتبنون قضية تطبيق شرع الله ليس من جنس "حلف الفضول" الذي كان على نصرة المظلوم، وإحقاق الحق، ونحو ذلك".

المثل الاخر قريب ايضا، وتفاعلاته مستمرة، وهو ما اسميه بالحالة الهولندية، تبعا لجغرافية الحدث، وهي اوربية تبعا لتوزيع الحدث بإشكاله المتعددة في مرات سابقة. واتخذ هذه المرة تسمية (الإساءة الهولندية إلى الإسلام وإلى السعودية) وقبلها الاساءة الدنماركية والفرنسية.

الامثلة ليست قليلة في اي مجال يتوجه اليه المسلمون في حياتهم، على امتداد توزيعاتهم الجغرافية، سواء في بلدانهم او بلدان المهجر، فلا فرق كبير بين الجغرافيتين.

الى ماذا يلجا المنهزمون لتطمين الاحساس بهزائمهم وتوهمها انتصارات لا تغيب عنها الشمس؟ يمكن الاجابة عن ذلك بعدد من الامور واسميها (الحصون) التي يحتمي خلفها الضعفاء، حماية لأنفسهم من المهاجمين، وهي تشبه الحصون التي كانت تحيط بالمدن قديما لحمايتها من الغزاة، لتتحول الى حصون لحماية الحكام.

1 – اختراع دين بديل مواز للدين الاصل، يأكل من جرفه ومتنه، وبمرور القرون لا يبقى من الاصل الا رسما.

2 – التقديس او المقدس: والذي انتقل من الله، الى الحاكم ليكون الحاكم بأمره والناطق بلسانه، والى اخرين اقل رتبة من الحكام، لكن التقديس ينسحب عليهم ايضا، ولم يعد من مجال لمعرفة الرجال عبر الحق، بل اصبح كل حق ومعرفته يمر عبر الرجال.

3 – الخلاصية، او المخلص: حيث المنهزم في داخله يبحث عنه، ويريده ان يرافق جهله، لكن هذا المخلص والخلاص، في الدين الاصل قرين المعرفة، التي يبحث عنها العقل، ولا خلاص دون معرفة، ولا معرفة دون اخلاص، هل ثمة علاقة بالمخلص والخلاص والاخلاص؟

الطهرانية: وما أعنيه بالطهرانية هنا هو عُصاب تحصيني اصطفائي - ضغائني، وهي تتجسد في ثنائية هي:

المجتمع فاسد، متهالك، سقيم؛ تقع علينا مسؤولية معافاته التامة، وحقنه ترياقا مضادا لسموم الحضارة الحديثة، ونعمل على اعادة الحيوية المفتقدة له، والصحوة من جديد.

النظيف يتجسد في المدينة المثالية الفاضلة، بهندسة روحانية تأتي مطابقة لقدسية المدينة الأولى في بداية الدعوة، بعيدا عن فحش الأشياء، وانفلات الصور؛ لأن هذا طبعا سيكون خدشا سيطيح بسُمُوّ المثال.

الماضوية: وهي خاصية أساسية للوعي الذي ينغلق على ماضيه، ويحيله - جزئياً، أو كلياً - إلى إطار مرجعي أوحد للحكم أو القيمة في السلوك والأفعال، وذلك على نحو تبدو معه تحركات هذا الوعي وأفعاله دائرة في مدار من الجاذبية التي لا تفارق مركزاً بعينه في الماضي اود التركيز بشيء من التفصيل حول النقطة الاولى:

الدين البديل، واقصد به جملة التلوينات التي رسمها الشارحون والمفسرون والمدونون، للاسلام الاول، وهو اسلام القران، ومحمد القراني، وهما ليسا محل اجماع، بل تضارب واختلاف، واصبح لدينا وعبر هذه التلوينات الاسلام التاريخي، ومحمد التاريخي، يتفق المسلمون على الموضوع وهو في هذه الحالة (القران وشخصية النبي)، ويختلفون على المثال، لهذا كان التحذير وعلى شكل نبوءة للمستقبل القادم بعد البعثة النبوية (سيعود الاسلام غريبا) وهذه الغربة جذرت من الهزيمة الداخلية في نفس المسلمين وفي عقولهم، واستوطنت بدلا منه هذه التلوينات العديدة، وهي تلوينات لاعلاقة لها بالاسلام الاول، بقدر علاقتها بتدين المسلمين وفهمهم للاسلام، وهو كما ذكرنا قبل قليل، يقترن بالجهل على حساب المعرفة، وبالخلاص على حساب الحرية، وبالاشخاص على حساب الحق، وبالموضوع على حساب المثال.

المداخلات

بعد ختام طرح الورقة، اشترك في المداخلات والتعليق عليها عدد من الحاضرين، بدأ المشاركة الكاتب والروائي علي حسين عبيد، الذي سجل ملاحظة نقدية على الافكار التي طرحتها الورقة، وهي التعميم والعجالة، ورأى ان النقد يجب ان ينصب على التركيز على نقاط الخلل وطرح البدائل الصحيحة، ورأى عبيد، ان طرح اتهامات خطيرة بمثل هذه العمومية الشاملة دون الاستناد الى ادلة واضحة سيخلق اشكالية. لكن علي عبيدـ يتفق من ناحية اخرى، على وجود عدد من الظواهر السلبية التي يعاني منها المسلمون، وبتحديد اكثر، يعاني منها العقل المسلم، الذي نحتاج الى معالجته، تلك المعالجة تنطلق من فهمنا لما يعانيه هذا العقل، وهي كما ارجعها عبيد ، الى معوقات داخلية وخارجية.

الداخلية هناك الكثير من العادات والقيم التي اثقلت هذا العقل وجعلته لا يفهم الاسلام بصورته الصحيحة والنقية. ويذكر عبيد بالمجتمع الجاهلي ووجود العادات المسيئة للانسان فيه، وكيف ان الاسلام عند مجيئه قد حارب تلك العادات، وغير الكثير منها، لكن الانعطافة الخطيرة التي حدثت بعد مقتل الامام علي (عليه السلام) ومجيء الامويين اعادت ما حاربه الاسلام من تلك العادات والقيم، والتي تراكمت بفعل الحكام حتى اثقلت هذا العقل الى وقتنا الحاضر.

السبب الخارجي الذي اعزو اليه غياب الفعل الحضاري للعقل المسلم، يضيف علي عبيد، هو اعداء الاسلام والمسلمين والذين يعملون على تدمير الاسلام من خلال تدمير نفسية وشخصية المسلم، ويعملون على انحطاطه العقلي، يعتقد عبيد في ختام مداخلته، اننا نحتاج الى الكثير من الجهود التي يجب ان تقدمها الحوزات العلمية والمؤسسات الدينية والمثقفين، لإعادة الفاعلية الحضارية للعقل المسلم.

كانت مداخلة الشيخ جلال معاش، من خلال ذكر بعض الشخصيات الاسلامية التي حاولت اصلاح تدين المسلمين، والذين كانوا يقولون بوجود الاسلام في اوربا على الرغم من عدم وجود المسلمين، لانهم قد اقتبسوا الكثير من تعاليمه واصبحت في صلب سلوكياتهم. وهو يضرب مثلا من خلال ما يشاهده في رحلاته التبليغية الكثيرة الى بلدان اوربا، وكيف ان اتهام احد الاشخاص بالكذب تعد اهانة لا تغتفر، على العكس من مجتمعاتنا والتي تمارس الكذب بصورة متواصلة، دون حرج او احساس بالاثم. ينبع ذلك باعتقادي، يضيف معاش، ان الاوربيين يختطون طريقهم عبر الطريقة الاسلامية، في حين اننا نختط طريقنا عبر الممارسات التكفيرية. ويرى معاش، ان ذلك جعلنا بعيدين كل البعد عن فهم الاسلام الحقيقي، وفهم الحضارة الحديثة، لأننا لم نفهم ان التدين هو ممارسة الانسان لسلوكه الديني بصورة صحيحة.

مداخلة الشيخ علي الرميثي، انصبت على ضرورة التركيز على تقديم البدائل والمعالجات لما نعاني منه. ويتم ذلك من خلال التركيز على الفرد المسلم وثقافته الدستورية والقانونية.

فحتى الان لا يعرف معظم المسلمين ما هو المطلوب من الحاكم وما هو المطلوب من المحكوم، وماهي القوانين التي في صالحه؟ ومرد ذلك كما يعتقد الرميثي، اننا ليس لدينا ثقافة قانونية او دستورية، كما ان احد اسباب الانفصال بين المسلم وما يعتقد به انه لا يعرف مقاصد عمله وعباداته، مثل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والتي نجد استخفافا او اهمالا في عدم معرفة مقاصدها.

في مداخلته رأى مرتضى معاش مدير مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، ان كل قراءة للدين والتدين مثل هذه القراءة، هي دين جديد. ويتساءل: الى اين يمكن ان نصل مع كل قراءة جديدة؟ يجيب معاش: الى اللاشيء. لان كل قراءة تقوم بنسف القراءة السابقة.

يرى معاش، ان الاديان الموجودة في وقتنا الحاضر، نابعة من فهم المتدين بها. وهذا الفهم يعود الى ما يسميه (حرية الفهم الديني). لكن ما هي الحدود لهذا الفهم؟ ليس هناك من حدود كما يعتقد البعض ممن يتصور ان حرية الفهم لا تخضع لحدود البحث العلمي ومناهجه. والامثلة كثيرة على مثل هذا التجاوز لتلك الحرية.

يواصل معاش طرح اسئلة اخرى، هل سلوك المتدين هو حجة؟ وما هو الفرق بين الدين والتدين؟ ولماذا يحدث الانفصال بين الدين والتدين؟

يجيب معاش، غياب العقل المسلم عن الفاعلية الحضارية هو التدين المغشوش الذي يسود الساحة الاسلامية، وتدعمه الكثير من الفتاوى.

وهي (اي الفتاوى) كثيرا ما جعلت من الدين وسيلة للسلطة، وبالتالي فان مواجهة الحاكم المنحرف ستكون مواجهة ضد الدين، ويغيب عن بال هؤلاء، ان الحق لا يعرف بالرجال بل الرجال يعرفون.

يعتقد معاش، ان الاسلام قائم على مبادئ اساسية لابد ان تكون معيارا لفهم الدين وتمثله، ففي الاسلام لاوجود للاستبداد والدكتاتورية، والمنع عن التعلم ليس من الدين في شيء. لكن المشكلة الاساسية هي في الفهم المنقوص للدين.

في مقارنته التي يعقدها بين الاوربيين والمسلمين، يرى معاش، ان الاوربيين يتطورون وينضجون ويصبحون اقرب الى الاسلام منا. ولا تنفك الكثير من الشخصيات والباحثين منهم، من يقترب من فهم الاسلام عبر نتاجاته الفكرية، كما حدث مؤخرا مع توماس بيكت وكتابه عن الضرائب، والتي راى فيها انها المحور الاساس في صعود البلدان وسقوطها، ويصل الى نتيجة مفادها ان تلك البلدان ستصل الى مرحلة من انعدام الحركة التجارية والاقتصادية، بسبب عدم التفاعل مع تلك القوانين التي تجبر الناس على دفع الضرائب للدولة، مما سيطرح اسئلة من قبيل مافائدة كل هذا الجهد الذي يبذله الانسان في عمله، وهو لا يتبقى من مردوده المادي الا الشيء اليسير؟

وهو فهم يقترب من المباديء الاسلامية، التي تؤكد على الضمان الصحي والاجتماعي ومحاربة البطالة، والتي تناولها المرجع الديني السيد صادق الشيرازي في كتابه (السياسة من واقع الاسلام).

في ختام مداخلته، وبحثا عن مخرج لهذا الغياب الحضاري الفاعل للعقل المسلم، يعتقد معاش، ان هناك مشكلتان اساسيتان يجب تحرير الدين منهما وهما العنف والاستبداد، ويجب ان يكون العمل منصبا على تحرير الدين الاسلامي منهما.

الباحث احمد المسعودي، يتفق على مع ما طرحته الورقة وتشخيصها للعلل الموجودة لدينا، والتي هي سبب التراجع للعقل المسلم، وهو يعزو ذلك ايضا الى تلك الانتقالات القوية من حالة الى أخرى، والتي كثيرا ما تسبب الصدمة للعقل المسلم.

يعتقد المسعودي، اننا مصابون بهذا التراجع الحضاري، وان الاسلام الموجود حاليا له القدرة على انتاج التطرف والارهاب، مما وصم الاسلام كله كمنظومة دينية بهذه الوصمة، وادت في جملة ما ادت اليه الى هذا الغياب للفعل الحضاري، ويحمل المسعودي ايضا النخب الاسلامية المثقفة المسؤولية في هذا الغياب.

يعتقد المسعودي، ان جذر المشكلة يعود الى ما حصل من انشطار عمودي وافقي في المجتمع الاسلامي بسبب الخلافة، وتحولها الى ملك عضوض، والتي عبر عن جوهر انحرافها ابو سفيان بقوله (لاملانها عليكم خيلا ورجالا).

والجدير بالذكر ان وفدا من مكتب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) ممثلا بالشيخ جلال معاش والسيد هاشم اليعقوبي والشيخ مصطفى معاش والشيخ مهدي معاش، شارك في نقاشات الملتقى والاطلاع على نشاطاتها، ونقل مختلف نشاطات المؤسسات المرجعية في مختلف دول العالم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/آيار/2014 - 24/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م