لا يعرف حقيقة المال حق المعرفة إلاّ من أتاه خجلا متسربلاً ثياب
الكد والتعب، وربما الفقير هو الأقدر على التشخيص عندما يتسرب إلى جيبه
قليل من المال يفوق ما اعتاد عليه، والذي ينشأ في عائلة فقيرة ويشق
حياته بعيدا عن الأجواء السابقة يتذوق طعم الغنى، حتى وإن لم يكن يملك
ثروة كبيرة، وعلى الطرف الآخر من نهر الحياة فإن الذي يعيش بحبوحة
الغنى المادي وبخاصة من الأبناء لا يملك ذلك الاحساس الذي عليه ابن
الفقير في تشخيص معنى الغنى والفقر، فمن لم يذق مر الخسارة لا يتحسس
حلو الفوز والظفر، ومن لم يذق علقم الفقر لا يقدّر شهد الغنى، ولذلك
جاء في الأثر (ارحموا عزيز قوم ذل).
ولأن الأمر كذلك، فإن الإنسان بطبعه وفطرته يحدوه الأمل لأن يحسّن
من وضعه المالي، فحتى المليونير لا يكتفي بملايينه ولا الملياردير،
وأما محدود الحال والمفلس والمديونير (المديون) فهو دائم التفكير ودائب
السعي للخروج مما هو فيه نحو الأحسن، ولعلّ طبقة العمال والموظفين
وأصحاب الدخل المحدود من أكثر الطبقات الساعية الى تحسين الحال
الاجتماعي والاقتصادي، من أجل بناء أسرة مستقرة ماديا توازن بين
متطلبات الحياة الصعبة والراتب المحدود الذي يتصاعد سنويا بحركة
سلحفاتية غير محسوسة ومرهقة في الوقت نفسه يتحسسها الأب عندما يكون
مطالباً تأمين كسوة الصيف والشتاء وتوفير المعيشة المعقولة لأفواه لا
تدرك معاناته، وهي غير معنية من أين يأتي المال، إذ لا حول لها ولا قوة.
وبقدر صعوبة الحياة لأصحاب الجيوب الخفيفة من العاملين والموظفين
فإن وتيرة رغبتهم تتصاعد كلما ضاقت عليهم حلقة الحياة، ولذلك يكون
السعي الجاد لاستحصال ساعات عمل اضافية او ابتعاث لدورات تدريبية أو
تأهيلية من أجل راتب أفضل، بل يستعمل بعضهم وسائل غير نزيهة في هذا
السبيل، ولعل من أسوأ اللحظات على الموظف هو عندما يحين موعد تقاعده،
فتراه يسعى لتمديد عقد عمله لسنوات أكثر، فراتب التقاعد غير مجز عند
الكثير وجلسة البيت قاتلة.
ولكن من أكثر الناس خسارة، مَن تتاح له فرصة العمل الإضافي وبأجور
طيبة ولا يستغلها مستأنسا لما هو فيه من الحال متكئا على أريكة الخمول،
وربما يشكو البعض من قلة الحال مع قدرته على تحسينها ولو بقدر ولا يسعى
لها سعيها، فهذا من خيبة الأمل أيضا، وقد ساقني الى هذه المقدمة كتيب "شريعة
النوافل" للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر
حديثا (2014م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 64 صفحة، فالمسائل
التي تضمنها وهي 116 مسألة فقهية وتعليقات الفقيه آية الله الشيخ حسن
رضا الغديري وهي 14 تعليقة مع مقدمة للمعلق وتمهيد للكرباسي، كلها وفي
مؤداها العام تحكي عن واقع الانسان الذي أتاح له رب الأرباب فرصة تحسين
واقعه الدنيوي والأخروي نحو الأحسن والأفضل، دعوة مفتوحة أطلقها رب "قل
اعملوا" لساعات أجر اضافية غير مقدرة بثمن وبعثات عمل الى فضاءات غير
محدودة يصعب على عقل الانسان تثمينها، فسوح الحياة سوق مفتوح للاغتراف
من عطاء الله مع قليل من العناء، بحاجة الى ارادة لا ينالها كل انسان.
الخير في النوافل
لا وجه للمقارنة بين عطاء البشر وعطاء رب البشر، ولكن التشبيه جاء
من باب تقريب الفكرة التي يعايشها الانسان في حياته اليومية. فالعلاوة
المالية والمنحة وبدل ساعات عمل اضافية وبدل الابتعاث والسفر، كلها
موارد مالية في قبال الراتب الرسمي الذي يتقاضاه العامل والموظف، يتحسس
فائدتها وإن قلّت، وهذه المسميات في جانب العطاء الالهي اللامحدود هو
ما يطلق عليه بـ "النوافل" في قبال "الفرائض" فالأولى يؤجر الانسان على
الاتيان بها والثانية يؤثم على عدم العمل بها وتنجيزها، والفاصلة كبيرة
بين الأجر والإثم وبين الثواب والعقاب، واذا كان عطاء البشر في
العلاوات محدوداً لعدد من الناس ولساعات محددة فان عطاء الرب مفتوح
لكل البشر وبلا حدود، وهذا الفرق بين العطاءين، بل من الظلم الصراح
المقارنة بينهما، ولكن من باب المقاربة في الأمثال.
فالعلاوة لدى البشر يقابلها "النفل" لدى خالق البشر، وهي من حيث
اللغة كما يشير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (الهبة والزيادة، والنافلة
هي: ما يفعله الانسان مما لم يُفرض عليه ولا هو مما يجب عليه، والجمع
نوافل، وفي مصطلح الفقهاء، النافلة هي: أعمال العباد التي رغّب الشرع
الشريف في القيام بها دون إلزام، لكسب مزيد من القُربى والأجر والثواب،
وقد اُطلقت النوافل بشكل أبرز في الصلوات اليومية المستحبة والتي عُرفت
بالنوافل اليومية).
ولأنّ النوافل كثيرة وضعها الله رحمة لعباده، فإن كتيب "شريعة
النوافل" خصصه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي لبيان أحكام النوافل
اليومية، وهي عبارة عن صلوات وركعات وهي ضعف الفرائض اليومية في عدد
الركعات أي 34 ركعة، ركعتان قبل صلاة الصبح وثمان ركعات قبل صلاة الظهر
ومثلها قبل صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب أربع ركعات، وواحدة بعد صلاة
العشاء تُصلى من جلوس في ركعتين واحدى عشرة ركعة قبل طلوع الفجر الصادق.
فالنوافل كما يضيف الفقيه الكرباسي: (تزيد من بهاء الانسان المؤمن
وتصقل نفسه، وتحلّ عليه بركات ربه الايمانية التي قد لا يحصل عليها في
غيرها) وهي في مؤداها العام تسد النقص في الفرائض اليومية الواجبة التي
لا يضمن المسلم قبولها عند الله، وقد ورد عن الامام محمد بن علي
الباقر(ع): (إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو
خمسها، فما يرفع له إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا
بالنوافل ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة)، بل من منن الله على عبده
أنْ فتح له باب الاغتراف من معين خيره، وزيادة على ذلك أن الله يباهي
بصاحب النوافل الملائكة، ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع):
(إنّ العبد يقوم فيصلي النافلة فيعجب الرب ملائكته منه، فيقول: يا
ملائكتي، عبدي يقضي ما لم أفترض عليه)، فأية تجارة رابحة هذه، يأخذ
المشتري البضاعة بعينها وريعها وربحها وإذا رغب بالمزيد أخذ حيثما يريد،
وما أحوج الإنسان إلى مثل هذه التجارة في وقت تعصف به الحياة من كل
جانب بخيرها وشرّها، فربما حرفته عن جادة الصواب فتأتي النوافل كما
يؤكد الفقيه الكرباسي: (لتصحح مسيرة الإنسان وتصرفاته وتضعه في الجادة
الوسطى للحصول على نتائج مادية ملموسة لها ارتباط بالنفس والجسم أيضا،
بالاضافة الى القدرات التي يستخدمها الخبير اللطيف في انقاذ عبيده من
الوقوع في الهاوية).
الوجه الآخر
وعلى الرغم من المغريات التي يقدمها رب الأرباب لدفع المسلم نحو
التقرب اليه بالعبادة، فإن النوافل ليس الاتيان بها مستساغ كلها أو
بعضها للكثير من الناس، فهي في الوقت الذي تعتبر منّة الله على عباده
من باب اللطف بهم، فهي بحاجة الى توفيق منه سبحانه وبإرادة مباشرة من
العبد نفسه، لأنه بطبعه يبحث عن المنفعة التي يراها بين يديه شاخصة،
والثواب ليس بالشيء المرئي في عالم الدنيا، ولذلك لا يبحث عنه الكل،
وإلا لو كان ملموساً لتوجه كل الناس بالفرائض ولم يتخلفوا عن الدرب
فيدخلوا في خانة: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) سورة مريم: 59،
من هنا يرى الفقيه الغديري في التقديم أن: (الذي يأتي بالنافلة مع
الفرائض فهو يقصد بذلك وجه الله من غير الزام، فلعمله هذا مرتبة عالية
ومنزلة عظيمة عند المعبود المطاع، وهذا من منن الله تعالى عليه أن منحه
هذا التوفيق ليأتي بأعمال وأذكار باختياره التام من لدن نفسه فله أجر
عظيم ومقام رفيع).
بالطبع لا ينبغي أن يكون جزيل ثواب النافلة مدعاة للتساهل والتهاون
مع الفريضة، فتلك مستحبة وهذه واجبة، ويفترض في الواجبة أن تؤتى بكامل
شروطها وضوابطها، وفي الحديث عن الإمام علي(ع): (إِنَّ لِلْقُلُوبِ
إقْبَالاً وَإِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى
النَّوَافِلِ، وَإذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى
الْفَرَائِض)، ويقول الامام علي بن موسى الرضا: (إنّ للقلوب إقبالاً
وإدباراً فإذا أقبلت بصرت وفهمت، وإذا أدبرتْ كلّت وملّت، فخذوها عند
إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها)، فالوسطية مطلوبة في كل شيء.
ولا يخفى ان المرور على المسائل الفقهية التي عرضها الفقيه الكرباسي
تكشف عن أهمية النوافل اليومية في حياة الانسان، ولذلك هناك تسهيلات
كثيرة وترغيبات، ربما لا يصح بعضها في تنجُّز الفرائض، تدفع بالانسان
الى الاتيان بها، فعلى سبيل المثال: (يجوز إقامة النوافل من جلوس، ولكن
إقامتها من قيام أفضل)، (يجوز الاكتفاء بقراءة بعض الآيات بدل السور
الكاملة)، (يجوز إقامة النوافل ماشيا وعلى ظهر الدابة أو المركوب في
السَّفر والحضر). ولكن في الوقت نفسه تبقى الشروط الوارد ذكرها في
الفرائض اليومية واردة في النوافل اليومية، وهي كما أوردها الفقيه
الكرباسي في المسألة التاسعة: (الطهارة، نية العمل، نيّة القربة الى
الله تعالى، التقيّد بالوقت، طهارة الجسم والملبس ومحل السجود، التوجّه
نحو القبلة، إباحة المكان والملبس، حليّة الملبس، والسِّتْر).
في نهاية المطاف حيث لا نهاية لمطافات الله ومضايفه، إذا عرفنا هذا
النزر القليل عن مسائل صلاة النوافل، فلا عجب إذا ما سمعنا أن ولياً من
أولياء الله الصالحين كان يصلي في اليوم ألف ركعة، وكذلك لا عجب إذا
كان في متناول اليد الاتيان بها وتقصر الارادة عن تفعيلها. |