التتار والعودة الى القرم...

فظائع الماضي تلقي بهواجسها على المستقبل المجهول

 

شبكة النبأ: لقد عانى التتار القاطنون في شبه جزيرة القرم العائدة الى موسكو مؤخراً، الكثير من القمع والتهجير القسري قبل عقود من الزمن في ظل حكم السوفيتي السابق والتي قتل فيها ما يقارب من 46% من النازحين، وهم يخشون اليوم من إعادة نفس التجربة القاسية والعالقة في اذهان الإباء والاجداد، في ظل حكومة بوتين، الذي قدم تعهدات باحترام الأقليات المسلمة من التتار.

واكدت الولايات المتحدة (الرافضة لضم القرم من جانب روسيا) على لسان وزير خارجيتها "كيري" "ان الفظائع الي ارتكبت بحق التتار "تبقى راسخة في النفوس ومحاولات روسيا لضم القرم اعادت نكئ هذه الجراح القديمة"، واضاف "مع مرور كل اسبوع نلاحظ ان لائحة الخروقات لحقوق الانسان المرتبكة في القرم تزداد طولا"، وان اعمال القتل والضرب والخطف التي يتعرض لها تتار القرم وغيرهم باتت امرا شائعا".

ويبدو ان وقوف العديد من الدول في العالم موقف الرافض من تصرف بوتين بضم شبه جزيرة القرم الى روسيا الاتحادية واقتطاعها من كييف، شجع تتار القرم على المطالبة بحكم ذاتي لضمان حققوهم، وعدم تكرار ماسي السابق، مع الخوف من تحول القرم الى مكان لحرب الموالين والرافضين، قد تقوم به ميليشيا مسلحة او قوات امنية تابعة للجانب الروسي، كما يرى متابعون، كما ان انقسام التتار أنفسهم حول قضية الحكم الذاتي او البقاء مع روسيا، أربك حسابات قادتهم ومنعهم من اتخاذ موقف موحد وصريح.

وينظر الكثير من المراقبين أن مستقبل وجو تتار القرم في ظل الحكم الروسي بشيء من القلق، ويرى هؤلاء المراقبين أن العيش في ظل حكم شيوعي ربما يشهد تضييقًا في مجال الحريات وممارسة الشعائر الدينية، كما يعبر قادة تتار القرم عن مخاوفهم من انتقام روسيا منهم بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا يانوكوفيتش.

ويرى الكثير من المحللين انه على الرغم من الزيارة التي قام بها بعض قادتهم إلى روسيا مؤخرا ورسائل الطمأنة التي تردهم من موسكو من وقت لآخر، لا يزال تتار القرم ينتظرون ماذا يحمل لهم المستقبل في ظل العيش تحت النظام الروسي.

في سياق متصل وبعد مرور 70 عاما على ترحيل أسرهم بشكل جماعي في عهد الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين يجد تتار القرم أنفسهم في مأزق محير: أيتعاونون مع السلطات الروسية الجديدة في منطقتهم أم يقاومونها؟

يخشى بعض التتار (المسلمين أو المنحدرين من أصول أور وآسيوية) عودة القمع الاستاليني رغم الوعود الرسمية باحترام حقوقهم وحرياتهم بينما يرى آخرون أن التعامل مع روسيا هو أفضل السبل لضمان تحسن أوضاعهم، ويحتدم التوتر في المنطقة بعد عودة حكم موسكو وقبل أن تحل الذكرى السنوية لترحيل تتار القرم في قطارات المواشي في عملية بدأت في 18 مايو أيار 1944.

قالت ناريمان جيليالوف نائبة رئيس (المجلس) وهو الكيان الرسمي الذي يمثل تتار القرم "إما الحرب وإما التوصل لحل وسط، تلك هي لب المشكلة التي نواجهها، وإذا لم نتخذ موقفا موحدا فسنواجه خطر الانقسام والتهميش".

يشكل التتار أكثر من 12 في المئة من سكان القرم الذين ينحدر أغلبهم من أصل روسي والبالغ عددهم نحو مليوني نسمة وهم من أشد منتقدي القرار الذي أعلنته روسيا في مارس آذار الماضي بضم المنطقة التي كانت خاضعة من قبل لحكم أوكرانيا، وترى روسيا أن قرار الضم ما هو إلا تصحيح لخطأ تاريخي وتصفه بأنه "إعادة وحدة" مع منطقة لم يسلمها الزعيم الروسي نيكيتا خروتشوف لأوكرانيا إلا في عام 1954.

لكن التتار -الذين تقع عاصمتهم التاريخية باختشيساراي على مسافة قريبة من مركز المنطقة الحديث سيمفروبول- يعيدون تذكير موسكو بأنهم حكموا أجزاء كبيرة من القرم لقرون قبل أن تغزو الإمبراطورة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا شبه الجزيرة المطل على البحر الأسود في أواخر القرن الثامن عشر.

واتهم ستالين التتار بالتعاطف مع ألمانيا النازية وهلك كثيرون من بين ما يقدر بنحو 200 ألف شخص تم ترحيلهم في رحلة الذهاب للمنفى في وسط آسيا وشرق روسيا، وفي السنوات الأخيرة فقط من عمر الاتحاد السوفيتي بدأ بعض التتار يعودون إلى القرم في الثمانينات.

وقاطع كثير من التتار الاستفتاء الذي أجري في 16 مارس آذار وتقول السلطات المحلية إن 97 في المئة من المشاركين فيه أيدوا الانضمام لروسيا، وسخرت أوكرانيا والدول الغربية من الاستفتاء ووصفته بأنه غير مشروع. بحسب رويترز.

ولا يزال التتار يرفعون علم أوكرانيا على مجلسهم رغم أن وحدات "دفاع عن النفس" مؤيدة لروسيا ترددت عليه ورغم تهديدات المدعي العام في المنطقة بإغلاق المجلس، وقالت جيليالوف "اعتدنا الصراع الدائم، نحن لا نثق في السلطات الروسية، ولماذا ينبغي علينا أن نثق بها؟ هي تعارض تتار القرم دائما"، ويقول مصطفى جميلييف زعيم المجلس السابق والذي كان من رموز المعارضة خلال العهد السوفيتي إنه ممنوع عليه أن تطأ قدمه تراب القرم.

المجلس هو أكبر تنظيم لتتار القرم لكن هناك جماعات أصغر سعيدة بأن موسكو ضمت المنطقة تحت لوائها، إحدى هذه الجماعات جماعة (ملي فرقة) التي قالت إن أوكرانيا لم تفعل الكثير لتسوية أوضاع تتار القرم خلال السنوات الثلاث والعشرين التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي.

وقال وصفي عبد الرحيموف رئيس الجماعة "خلال أقل من شهرين فعلت روسيا لتتار القرم ما هو أكثر بكثير مما فعلته أوكرانيا على الإطلاق، كييف حتى لم تتذكر أننا موجودون إلا بعد أن أصبحت القرم جزءا من روسيا"، ومنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الآونة الأخيرة عبد الرحميوف وسام "الخدمات أمام الوطن الأم" من الدرجة الثانية لدعمه الإنضمام.

ومن بين الأسباب التي قال عبد الرحيموف إنها دفعته لدعم الإدارة الروسية إدراكه أن القرم ستكون تحت حماية "قوة ذات بأس واحترام" وكذلك مرسوم رئاسي يجعل لغة تتار القرم إحدى ثلاث لغات رسمية في شبه الجزيرة إلى جانب الروسية والأوكرانية، وتقول جماعة (ملي فرقة) إن المجلس ما هو إلا مشروع غربي الهدف منه إدماج تتار القرم في أوروبا وليس في الاتحاد الأوراسي الذي يعتزم بوتين إنشاءه ليضم الجمهوريات السوفيتية السابقة.

قال عبد الرحيموف "نعتقد أن من الأفضل لنا أن ننظر شرقا إلى أوراسيا خاصة وأن مركز التنمية الاقتصادية العالمية يتحول تدريجيا إلى دول مثل الصين والهند"، وتقول جيليالوف إن المجلس وجماعة ملي فرقة لديهما نفس الأهداف التي تتمثل في النهوض بشعب تتار القرم واحترام حقه في حرية التعبير والتعلم بلغته وحقوق الملكية والتمثيل الحقيقي في الحكومة لكن الطرق التي ينتهجها كل منهما مختلفة.

وقال رستم تميرجالييف نائب رئيس وزراء القرم إن روسيا تعامل التتار الآن "بأسلوب منفتح وديمقراطي تماما" وإنهم حصلوا على مناصب وزارية في الحكومة الأخيرة، وقال "روسيا تضمن أن كل حقوق تتار القرم وحرياتهم ستحترم".

ويعبر المجلس عن أمله في أن يتلقى قريبا إذنا رسميا للقيام بمسيرة تجوب شوارع وسط سيمفروبول بمناسبة ذكرى الترحيل لكن الحكومة تصر على ألا يرفع التتار علم أوكرانيا وألا ينتقدوا الضم، وبعد المسيرة السنوية يتبنى المجلس عادة قرارا يتضمن مطالبه للسلطات المحلية.

وقالت جيليالوف "ماذا سنقول هذا العام؟ البعض يريد إحضار قوة حفظ سلام لحمايتنا بينما هناك من هم أكثر قلقا بشأن المشاكل اليومية مثل الإسكان"، وخلال زيارة إلى باختشيساراي في الآونة الأخيرة عزف كثيرون عن التعبير عن وجهات نظرهم قائلين إنهم يخشون الاضطهاد إن هم عبروا عنها.

وقال رجل في منتصف العمر مكتفيا بذكر اسمه الأول آدم "لا فهم للديمقراطية في روسيا بينما كان بمقدورنا في أوكرانيا الدفاع عن مصالحنا، الروس يرفضون الاعتراف بأننا الشعب الأصلي هنا، نحن وليس هم"، وقال آدم إن السلطات الجديدة تحاول عن عمد شق صف التتار مضيفا "بدأ الناس الآن يسألونني إن كنت أؤيد جميلييف أم زعيم المجلس الحالي أم أي جماعة أخرى"، ومن أمام مسجد في سيمفروبول قال أكيم وهو من أرباب المعاشات إن الشكوك المحيطة بكيفية سير الحياة في ظل الحكام الجدد هي أكثر ما يقلق التتار.

وقال إن الحياة لم تكن سهلة خلال حكم أوكرانيا مضيفا "لم يبنوا طوال 20 عاما مدرسة ولم ينشئوا نظام صرف صحي في منطقتنا، هذا لأن من المعروف أن هذه منطقة التتار"، وطلب أيضا الإكتفاء بذكر اسمه الأول، وتابع حديثه "لكن علاقتنا مع الروس أسوأ، نحن نعرف يقينا من الذي قام بترحيل أسرنا في عربات المواشي ولا نعرف ما سيحدث هذه المرة".

إعادة الاعتبار

من جهته أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن توقيعه مرسوما لإعادة الاعتبار لتتار القرم كشعب تعرض للقمع تحت حكم ستالين، في بادرة لصالح هذه الأقلية المسلمة التي أعربت عن رفضها الانضمام إلى روسيا.

وطالب المجلس التمثيلي لتتار القرم في وقت سابق السلطات الجديدة في هذه المنطقة التي تم ضمها لروسيا، إلى العمل على نزع سلاح الميليشيات الموالية لروسيا وتمكين الشرطة مجددا من القيام بعملها، وأصدر هذا المجلس "نداء لحماية حقوق الإنسان والحريات" أقره ونشر على موقع المجلس على الإنترنت.

وأشار إلى تعرض التتار من المسلمين والذين يمثلون ما بين 12 و15% من سكان القرم إلى العديد من التهديدات، ويدعو المجلس السلطات الجديدة إلى "حل كل التشكيلات التي تسلمت مهمات الشرطة وعمل أجهزة حفظ النظام بشكل غير شرعي".

وكان ممثلو التتار دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء الذي سبق وصوتت بموجبه غالبية ساحقة من سكان شبه جزيرة القرم لصالح ضم المنطقة إلى روسيا، وكان عدد التتار الذين شاركوا في الاستفتاء قليل جدا.

وأعلن بوتين في اجتماع حكومي "أعلمكم إنني وقعت مرسوما حول إعادة اعتبار تتار القرم، والأرمن، والألمان، واليونانيين، وكل من عانى من القمع الستاليني"، على ما نقلت وكالة ريا نوفوستي الروسية، ويشكل تتار القرم حوالى 12% من سكان شبه الجزيرة وقاطعوا بأعداد كبيرة الاستفتاء الذي جرى في 16 آذار/مارس وأدى إلى إلحاق القرم بروسيا.

ومنعت روسيا زعيم تتار القرم مصطفى جميليف من دخول شبه الجزيرة الاوكرانية لخمس سنوات، على ما اعلن مجلس تتار القرم في بيان، واوضحت المتحدثة باسم المجلس ليليا موسليموفا ان حرس الحدود سلموا جميليف لدى مغادرته القرم الى كييف وثيقة رسمية تحظر عليه الدخول الى اتحاد روسيا حتى 19 نيسان/ابريل 2019، ورد جميليف على الموقع الاخباري الالكتروني "زد.ان يو ايه" "ان هذا القرار يظهر اي دولة متحضرة نواجهها".

الا ان مصدرا في قوات امن القرم صرح لوكالة ريا نوفوستي الروسية بان "الجانب الروسي لم يمنع النائب الاوكراني مصطفى جميليف من دخول القرم"، واوضح المصدر نفسه ان برلمان القرم ايضا "لم يتخذ اي قرار في هذا الصدد"، وردا على سؤال لم يدل جهاز الامن الفدرالي (اف اس بي) باي تعليق فوري، ولم يتسن الاتصال بالجهاز الفدرالي لحماية الحدود، وندد مصطفي جميليف، الزعيم التاريخي لتتار القرم، اكثر من مرة ب"ضم" شبه الجزيرة الى روسيا.

وقبل الاستفتاء على الحاق القرم بروسيا الذي دعا جميليف الى مقاطعته اجرى زعيم التتار اتصالا هاتفيا بالرئيس فلاديمير بوتين دافع خلاله عن "وحدة اراضي اوكرانيا" وندد ب"عدم شرعية" الاستفتاء، وتوجه نحو ثلاثين رجلا بلباس الميدان الى المجلس التمثيلي لتتار القرم في سيمفروبول لانزال العلم الاوكراني الذي كان يرفرف فوقه منذ 19 نيسان/ابريل، بطلب من جميليف. بحسب فرانس برس.

حكم ذاتي

فيما صوت المجلس الأعلى لتتار القرم لصالح السعي لإقامة "منطقة حكم ذاتي عرقي وإقليمي" للأقلية المسلمة من السكان الأصليين في شبه الجزيرة الواقعة على البحر الأسود والتي ضمتها روسيا من أوكرانيا، ويشكل السكان المسلمون التتار البالغ تعدادهم 300 ألف نسمة أقل من 15 بالمئة من سكان القرم البالغ تعدادهم مليونان وتعارض أغلبيتهم الساحقة إلى الآن ضم روسيا للقرم.

وقال رفعت شوباروف زعيم المجلس الأعلي لتتار القرم أمام أكثر من 200 مندوب تجمعوا لحضور جلسة للمجلس "يأتي وقت في حياة كل أمة يتعين عليها اتخاذ قرارات تحدد مستقبلها، وصوت المجلس في وقت لاحق على الاقتراح في اجتماع عقد في باختشيساراي العاصمة التاريخية لتتار القرم، وقال شوباروف إنه يتوقع أن ترد كل من كييف وموسكو على التصويت لصالح الحكم الذاتي للتتار.

وفي إشارة إلى الضغوط التي تمارسها موسكو الحريصة على منع أي معارضة من تتار القرم من شأنها أن تزيد التوترات في شبه الجزيرة حضر اجتماع المجلس الأعلى للتتار مسؤولين كبيرين من المسلمين الروس لديهما علاقات قوية مع الكرملين.

وحاول رافيل غني الدين رئيس مجلس مفتي روسيا ورستم مينيخانوف رئيس جمهورية تتارستان (إحدى مناطق روسيا التي تسكنها أغلبية مسلمة) إقناع تتار القرم بالانحياز لموسكو، وقال مينيخانوف "اعتقد أنه يتعين علينا أن نتقارب وأن نتوحد."

وكان شوباروف قال في وقت سابق إن المجلس الأعلى لتتار القرم مستعد لأن يدرس إجراء استفتاء عما إذا كان تتار القرم يعتبرون أنفسهم جزءا من روسيا أم أوكرانيا.

وندد بعض تتار القرم في الاجتماع باقتراح الحكم الذاتي بوصفه خيانة لأوكرانيا، وأصر آخرون على أن الاقتراح حال دون تهجيرهم بشكل جماعي مرة أخرى وقالوا إن حماية حقهم في العيش على الأرض التي يعتبرونها وطنهم يمثل أولوية، وقال ألكسندر علييف الذي جرى ترحيله من القرم إلى آسيا الوسطى وهو في الخامسة "لو كانت لدينا أغلبية هنا كان في وسعنا أن نفكر في عمل شيء ما لكننا لسنا أغلبية وكل ما يتعين علينا هو أن نعترف رسميا بالواقع كما هو".

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/آيار/2014 - 19/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م