الفضائيات ونظرية ما يطلبه المشاهدون

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: المليارات من الدولارات تنفق على محطات تلفزة فضائية عربية ترسل برامجها إلى المشاهد العربي في جميع انحاء العالم بهدف جذب اهتمامه ومتابعته للشاشة الصغيرة، ولمجرد وضعه هذه القناة او تلك ضمن المفضلات.. مع علم الجهات والدول المانحة بأن هذا الانفاق ليس عملاً استثمارياً مربحاً، إنما هو مشروع استهلاكي، سوى ما تجنيه بعض القنوات من الإعلانات، التي ربما لا تسد جزءاً مهماً من حجم الانفاق الضخم على هذه القنوات.

في آخر احصائية للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية التابعة لاتحاد اذاعات الدول العربية الذي يتخذ من تونس مقراً له، ان عدد القنوات الفضائية العربية بلغ حتى الشهر الماضي، إلى (1320) قناة حكومية وخاصة. وحسب بيانات الاتحاد فان القنوات التي تهتم بالأفلام والمسلسلات تحتل الحصة الاكبر من الشاشة الصغيرة بـ (151) قناة، تليها القنوات الرياضية بأكثر من (146) قناة، فيما تبلغ القنوات الدينية (125) قناة، والإخبارية (66) قناة. ولو عرفنا أن عدد سكان الوطن العربي يبلغ حالياً حوالي (370) مليون نسمة – حسب بعض الإحصائيات- فمعنى هذا إن اقل من نصف مليون مشاهد لهم قناة فضائية خاصة، وهذا يسجل مفارقة كبيرة مع ما كان سائداً إلى ما قبل حوالي ستة عشر سنة، حيث كانت شعوب بالملايين تعتمد في متابعتها التلفزيونية على قنوات تلفزيونية حكومية تعد بالاصابع.

فما الذي تبحث عنه هذه القنوات الوفيرة يا ترى، بين الأسر العربية؟

الحقيقة الصادمة التي توصل اليها معظم الباحثين في الشأن الاعلامي، والمرئي على وجه التحديد، أن ظهور القنوات الفضائية في نهاية التسعينات من القرن الماضي، لم يكن ليهدف إلى الارتقاء بالمستوى الثقافي للشعوب، و ربما يكون الباحثون غير ملومين بصدمتهم، لأن انطلاق القنوات الفضائية، جاء من هيئات أو مؤسسات اعلامية خاصة قدمت إطاراً جديداً للمشاهد على أنها صورة جديدة للشاشة الصغيرة غير تلك التي كانت تبثها الحكومات العربية، فقد ملّ المشاهد العربي طيلة العقود الماضية من اخبار الزعيم ومغامراته وادعاءاته، وايضاً اخبار حكومته وحزبه، لذا بدأ بالبحث عن الثقافة والمعرفة من مصادر اخرى، مما يعني ان هذه القنوات يمكن ان تلبي حاجة المشاهد العربي وتساعده على البناء الثقافي وتطوير حياته وطريقة تفكيره. لكن سرعان ما خاب ظن الجميع، بأن هذه القنوات لا تعدو ان تكون على شاكلة الاذاعات المسموعة أيام زمان عندما كانت تتفق على تسمية واحدة لبرنامج شهير: "ما يطلبه المستمعون".

بعض المتابعين للشأن الاعلامي والرأي العام يجدون في التحولات السياسية انعكاسات على الوضع الاجتماعي والثقافي العربي، لاسيما تداعيات غزو الكويت من قبل نظام صدام، ودخول الولايات المتحدة والغرب في المنطقة لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، بثوب جديد ولغة جديدة، وعلى نطاق أوسع التطورات الهائلة على صعيد العالم، بانهيار المعسكر الشرقي وبروز نظريات تتحدث عن آحادية القوة في العالم، إلى جانب التسويق لنظرية "العولمة"، وغيرها من العوامل السياسية والثقافية المتشابكة، دفعت بدول عربية، وتحديداً السعودية وقطر ومصر، لأن تفكر بجدية في ايجاد البدائل للمشاهد العربي تجعله بعيداً عن اجواء الثقافة والفكر الذي بدأ ينتجه العالم منذ تلك الفترة، والمحافظة على مستواه الثقافي، فاذا كان في السابق يطلب "الاغاني" مثلاً، فان بامكانه اليوم تلبية رغباته بفيض من المسلسلات التلفزيونية والبرامج الترفيهية تضاف اليها المتابعات الرياضية الاجنبية – طبعاً-.

واذا لاحظنا الظروف التي رافقت انفجار الغضب الجماهيري العربي فيما يسمى اعلامياً بـ "الربيع العربي"، فانها لن تكون بعيدة في ملامحها عن الظروف التي كانت تعيشها الشعوب العربية في تسعينات القرن الماضي، فالبطالة والتضخم والفساد الاداري وغيرها من الاسقاطات السياسية، ولعل أهمها واعظمها اعلان الهزيمة المريعة للعرب امام الكيان الصهيوني والغرب، عندما اعلنوا تضامنهم على تدمير القدرة العسكرية العراقية في حرب عمليات "عاصفة الصحراء" الامريكية، ثم الدخول في مرحلة جديدة من العلاقات مع الكيان الصهيوني ومباركة عرفات بتوقيعه معاهدة "أوسلو" عام 1994، وإنهاء "النضال" لتحرير فلسطين، بل وتخلص العواصم العربية إلى الأبد من مسؤولية دعم القضية الفلسطينية، بالشكل الذي كانت الشعوب تسمع عنه، وهو مساعدتها بتحرير الاراضي المحتلة. مع كل ذلك، كسب الحكام العرب الوقت وبقوا سنوات في الحكم، قبل ان يأتي اليوم الذي يفترض ان يغادروا السلطة. خلال هذه الفترة لم تكن الشعوب في الشوارع لتصرخ وتهتف مطالبة بـ "إسقاط النظام"، إنما كانت – بمعظمها طبعاً- اما شاشة التلفاز الذي كان يمثل الوسيلة الوحيدة الذي يزيل عنهم تعب وإرهاق يوم من البحث عن لقمة العيش.

لذا كان واضحاً إن البحث عن لقمة العيش وتلبية الحاجات اليومية، كان تشغل المواطن العربي عن البحث في صلاح او فساد حكومته، او التأمل في المناهج الاقتصادية او التربوية او السياسية المتبعة، حتى وان كان الواضح منها الانحراف والانزلاق نحو المهاوي، تبعاً لفكرة "ليس بالامكان أحسن مما كان"، والخوف من القادم الأسوء، وغيرها من التبريرات والتصورات التي ربما كان للاعلام المرئي دور كبير في تكريسها في النفوس. وما أدلّ على ما نذهب اليه، ظاهرة "الرجل القوي" الذي تبدع قنوات عديدة في الترويج له لغير بلد عربي، علماً إن هذا يأتي في زمن يفترض اننا نعيش فيه حالة التغيير وجني ثمار "الربيع العربي".

وقد سجّل العديد من الباحثين والخبراء في الاعلام المرئي الغياب الواضح للثقافة والفكر في المحطات العربية، مقابل الاهتمام البارز بالدراما، والرياضة والاعلانات التجارية، والافلام والبرامج التي تهتم بالممثلين والممثلات وحفلات الغناء والطرب.. وثمة احصائية تشاؤمية للغاية نقله قسم الصحافة في احدى الجامعات الأمريكية بالاشتراك مع جهة استطلاعية عربية في الشرق الأوسط وبمساعدة مجموعة من الطلبة العرب الذي يدرسون في هذه الجامعة، قاموا باجراء مسح ميداني ودراسة أكاديمية لدور الفضائيات العربية في نشر وتطوير الثقافة، ومما جاء في نتيجة المسح، ان نسبة البرامج الثقافية إلى مجموع الارسال العام لا تتعدى نصف بالمائة من مجموع الارسال العام. وفي 34% من المحطات الفضائية لا توجد برامج ثقافية اطلاقاً. أما عن ضيوف البرامج، فان نسبة ضيوف البرامج من الممثلين والممثلات إلى نسبة الكتاب والشعراء والنقاد والمفكرين هي 99% لصالح الأولين، و1% فقط لصالح الآخرين!.

واذا عرفنا بوجود زيادة في نسبة الأمية السياسية والثقافية، إلى جانب الأمية الأبجدية في العالم العربي، بوجود حوالي (60) مليون أمي ابجدي في الدول العربية، علينا ان نعرف أن القنوات الفضائية العربية تسعى لأن تكون بمنزلة الكتاب البديل للانسان العربي يتصفحه ليس ورقياً إنما من خلال جهاز صغير في يده (ريمونت كنترل). ففي الوقت الذي كان الكتاب العربي من أغنى الكتب في العالم ثقافة وأدباً ومعرفة وحتى علماً، بات اليوم شيئاً مهجوراً، وإن كان له حضور، فهو على الرفوف البعيدة، او ربما يزين به البعض مكتبته لتكون خلفية جميلة للصور، او ربما تكون دلالة على مستوى ثقافة صاحبه!.

وقبل الختام، لابد من القول: إن فكرة "ما يطلبه المشاهد" من الناحية المهنية والاعلامية، أمر ليس بالسيئ مطلقاً، بل ربما يكون من عوامل التواصل بين القناة والمشاهد، ومؤشر على حجم التفاعل او تحديد وجهة الرغبات الموجودة، بيد ان الصحيح والحسن ايضاً أن لا تتجاهل القنوات الفضائية التي تحمل حقاً، الرسالة الاعلامية في إيصال المعلومة ونشر الثقافة والمعرفة، حقيقة التأثير الشديد للصورة على المشاعر والغرائز والنفوس، فهي من شأنها ان تكون سلوكيات وعادات بل ورؤى جديدة للانسان، وربما تكون بعضها مفيدة لحياته اليومية، بيد ان الاولوية للتنمية الذهنية والحثّ على كسب العلم والمعرفة وبناء الثقافة السليمة في مختلف مجالات الحياة، وهذا ممكن من خلال برامج خاصة بالكتاب والمؤلف، حيث تكون القناة خير وسيلة للترغيب على المطالعة او البحث عن العناوين الجديدة والمضامين المفيدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/آيار/2014 - 18/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م