شبكة النبأ: مشاهد عودة الأهالي من
سكان مدينة حمص القديمة "مركز المدينة"، الى منازلهم المهدمة بعد
انسحاب الجماعات الإرهابية منها، تثير مشاعر الفرح والحزن والأسى على
حجم الثمن الذي دفعه المدنيون مقابل حرب طائفية لا علاقة لهم بها. مع
ذلك، فان هذه المشاهد يتمناها اليوم نازحون آخرون من العراق بالعودة
الى مدينتهم "الفلوجة"، كما يستعيد من بقي فيها، أنفاسهم المكتومة بسبب
الحرب الطائفية المفروضة عليهم من الخارج.
لم يكن أحد ليصدق أن يبلغ الحال بالجماعات الارهابية في سوريا لأن
تلجأ الى التفاوض مع الحكومة للخروج من عنق الزجاجة والحفاظ على حياة
من تبقى من المسلحين وتنفيذ خطة انسحاب من المدينة، مقابل إطلاق سراح
عدد كبير من المدنيين المحتجزين. فقد تحول حاملو البنادق والقاذفات،
حاملي الحقائب والأمتعة وهو على ملابسهم العسكرية – المليشاوية،
ويتسابقون على ركوب الحافلات لتقلّم الى مناطق الريف الشمالي، وحسب
الاتفاق المرعي من قبل الأمم المتحدة بين الجانبين، فان حوالي ألفي
مقاتل مع عائلاتهم، غادروا أحياء حمص المحاصرة، حاملين أسلحتهم الخفيفة
باتجاه بلدة الدارة الكبيرة بريف حمص الشمالي، بالإضافة إلى فك الحصار
عن هذه المناطق، وإطلاق سراح سجناء لدى النظام، في مقابل إطلاق أسرى
لدى الثوار من بلدتَيْ نبل والزهراء الشيعيتين بريف حلب، بالإضافة إلى
إدخال مساعدات طبية وإنسانية للبلدتين بالتوازي مع وصول المسلحين إلى
الدارة الكبيرة.
في سوريا تراجع الاهتمام السياسي وتنازل من يسمون بـ "الثوار" عن
هدفهم بالإطاحة بنظام الأسد، ليحل محله الاهتمام الانساني والحفاظ على
حياة من تبقى من الناس، فكان الاتفاق بين الحكومة وقواتها العسكرية،
وبين الجماعات الإرهابية في مدينة "حمص". بينما في العراق، يبدو ان
الطموح السياسي ما زال سيد الموقف في الفلوجة، ربما لأن هذه المدينة لم
تبلغ فداحة الخسائر في الارواح والممتلكات ما بلغته "حمص"، وما عاشته
من حصار مطبق دام عامين. وحسب مصادر من داخل الفلوجة فان "داعش" يحتمون
حالياً ببعض العشائر في المدينة، فحسب عضو مجلس إنقاذ الفلوجة حاتم
العليّ، فان "عملية تحرير الفلوجة بشكل كامل بات وشيكا وهناك مشكلة في
احتضان بعض العشائر لبعض قيادات داعش العربية لمصالح خاصة".
وبما ان المعطيات على الأرض تؤكد صعوبة الحسم العسكري في ميادين حرب
العصابات، لاسيما ونحن أمام جماعات مسلحة تمارس لعبة الموت بعقلية
إيديولوجية، تعد القتل بابشع الاساليب، او الاغتصاب او التشريد وهدم
المباني من الامور، ليس فقط المباحة، إنما من الواجبات الشرعية.. فان
الحل السياسي يكون هو الخيار القادم، رغم انه "أهون الشرين"، وانه يأتي
دائماً في وقت متأخر جداً، وإلا ما الذي كان يمنع التوصل الى الاتفاق
في "حمص" خلال العامين الماضيين؟، وكم من المعاناة والآلام التي ربما
لم يتجرعها ابناء المدينة، لو تم التوصل الى هكذا اتفاق في الايام
الاولى.
وما يعزز هذا ما نقلته صحيفة "الوطن" الكويتية من وجود اتفاق خلف
الستار بين الحكومة العراقية وبين متنفذين في الجماعات المسلحة في
الفلوجة، يقضي بخروج المسلحين (الإرهابيين) مقابل تأمين طريق خروج لهم،
والتخلّي عن المدينة بالكامل. ولعل اعتراف عضو مجلس انقاذ الفلوجة
بوجود "مصالح خاصة" لدى بعض عشائر المدينة، ما يؤكد حاجتهم الى ورقة
تفاوض مع الحكومة لتحقيق مطالب ومصالح معينة.
حسب بعض المراقبين فان العمليات العسكرية التي شنها الجيش العراقي
يوم الخميس الماضي على عدة محاور حول مدينة الفلوجة، تمثل بداية
السيناريو المفضّل لاستعادة مدينة الفلوجة الى سيطرة الدولة، بعد
اقتحامها من قبل تنظيم "داعش" منذ مطلع العام الجاري، كرد فعل على
إنهاء الحكومة العراقية لما كان يسمى بـ "ساحة الاعتصام" في اطراف
المدينة وبقوة السلاح. المصادر العسكرية الرسمية تشير الى تقدم قوات
الجيش وفي طليعتها افراد "الفرقة الذهبية" في احياء المدينة بعد دحر
فلول الارهابيين. وحسب الفريق رشيد فليح قائد عمليات الانبار، فان
"مروحيات الجيش تواصل قصفاً مركزاً على أحياء في المدينة يتركز فيها
وجود المسلحين، مؤكداً سيطرة الجيش على خطين رئيسيين لإمدادات المسلحين
جعل تحركاتهم مكشوفة، في وقت يضيق الجيش الخناق عليهم..".
وبما ان نسبة كبيرة من السكان المدينيين ما يزالون محاصرين في
المدينة ويرزحون تحت وطأة "داعش"، فان شن هجوم كاسح من قبل الجيش
العراقي يمثل مغامرة خطيرة، وهذا ما يطمئن الارهابيين ويجعلهم في مأمن
خلف هذا الدرع البشري، الى جانب المساندة والدعم المعنوي من داخل
المدينة. وهذا بالحقيقة، يعد امتداد للعلاقة القديمة بين تنظيم
"القاعدة"، ثم تفرعاتها في العراق خلال العشر سنوات الماضية، وبين بعض
الاطراف السياسية والعشائرية في المنطقة الغربية، وحتى في مناطق اخرى،
شعر أهلها بعدم القدرة على بناء جسور العلاقة مع النظام السياسي الجديد
القائم على أنقاض نظام صدام.
لذا كانت الجماعات الارهابية بمختلف اسمائها وتوجهاتها الفكرية
والسياسية، الورقة الرابحة بوجه الحكومة العراقية لمزيد من الابتزاز
وتحقيق المكاسب السياسية. ومنذ تشكّل الازمة في الفلوجة وإحكام "داعش"
سيطرتها خلال الاشهر الماضية، ذهبت معظم التحليلات الى أن الحكومة
العراقية تعمّدت التريّث في اقتحام المدينة بهدف طرد هذه الزمرة
والقضاء عليها، لترك المهمة على عشائر المدينة ومن يطلق عليهم بـ "مجلس
الانقاذ" أو "الصحوات" وغيرها من التشكلات العشائرية والمليشياوية من
داخل المدينة، وتحفيز الروح الوطنية فيهم، لطرد العناصر القادمة من
السعودية وسوريا وبلاد أخرى، لا لهدف محدد، إنما ليكونوا "بندقية
للإيجار".
وما يؤكد ما نذهب إليه، عدم وجود أي تصريح او إعلان من القادة
العسكريين او السياسيين بان الهدف من العمليات العسكرية، القضاء على
تنظيم "داعش" في الفلوجة. إنما هو لإخراج هذه العناصر من المدينة، وهو
ما صرّح به تحديداً قائد القوات البرية، الفريق علي غيدان. وحتى علميات
المحاصرة فان الهدف منها استنزاف القوى وإجبارهم على الاستسلام للأمر
الواقع واختيار الانسحاب من المدينة.
وهناك مصادر تشير الى خورج حوالي (40) سيارة محملة بالأعتدة
والذخائر والرجال تضم الأغلبية من عناصر "داعش" الذين خرجوا من طرق
وعِرة باتجاه الصحراء نحو الحدود السورية. هذه المصادر تؤكد في الوقت
ذاته، أن المدينة لن تبق خالية من الوجود العسكري "الفلوجي" - إن صح
التعبير- إنما ستكون هنالك مليشيات او عناصر مسلحة تنتمي على عشائر
المدينة، هم من يقومون بتوفير الامن والاستقرار للمدينة وأحيائها بعد
خروج "داعش" بالكامل، حسب الاتفاقية المبرمة وغير المعلنة حتى الآن.
من هنا نعرف فائدة الانسحابات للجماعات الإرهابية من المدن
المحاصرة، بعد انتهاء مهمتها ودورها في حرب الشوارع مع القوات
النظامية، سواء في سوريا او العراق، كما نعرف حجم الخسائر الفادحة
والمعاناة الكبيرة للسكان المدنيين، الذين وجدوا انفسهم يدفعون ثمن
الحفاظ على "ماء وجه الإرهابيين"، للحفاظ على أرواحهم، بعد ان فقدوا
الأمان والاستقرار. |