أخلاقيات التغيير.. السبق الى الطيب الطيّب

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لعل من أهم الأسباب التي تقود الى المشكلات الاجتماعية بين الافراد داخل المجتمع الواحد هو عدم التطابق بين فكر الفرد وسلوكه. ويمكن ان يعود ذلك ربما الى الخوف من الاخرين، او عدم الثقة بهم، أو الانانية الشخصية التي قد تتحول الى نرجسية، لا يرى صاحبها الا نفسه ومصالحه من خلالها، او غير ذلك من اسباب عميقة داخل النفس الانسانية، تكرس هذا الانفصال بين الفكر والسلوك.

كثيرة هي الامثال التي تصف مثل هذه الحالة، ولعل أشهرها هو ان ما يفكر فيه الإنسان يظهر في فلتات لسانه، أو الحديث الشريف (لكل امرئ ما انتواه)، وغيرها من امثال وروايات تؤكد على اهمية المضمر في فكر الانسان وتأثيره على سلوكه، تبعا لحمولات هذا المضمر، ايجابا او سلبا.

كل الرسالات السماوية، دعت الى خلق التطابق والتماثل بين الفكر والسلوك، وذلك لغرض الغاء مناطق الفراغ التي لو وجدت فان التناقض هو الذي يحتل مساحاتها، وهذا التناقض هو سبب كل المشاكل التي يعانيها الانسان.

أحاديث اهل البيت (عليهم السلام) وادعيتهم تؤكد على ثيمة التطابق، وكان سلوكهم مع الاخرين تطبيقا عمليا لتأكيد تلك الثيمة، ولعل دعاء (مكارم الاخلاق) للامام السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) مثلا على كثير من التأكيد على التطابق بين الفكر والسلوك في مفرداته، وهو دعاء وان تحدد بين طرفين، الاول شخص الامام الداعي، والثاني الله سبحانه وتعالى الذي يتوجه اليه بالدعاء، الا انه يمكن ان يكون درسا بليغا للطامحين الى الارتقاء بفكرهم وسلوكهم وتطابقهما في حياتهم العملية.

الدرس البليغ هو طموح لكل انسان مؤمن (لأن يكون من عباد الله الصالحين والمتّقين)، كما يكتب المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في شرحه لهذا الدعاء من خلال كتابه (حلية الصالحين).

هذا الطموح يبقى طموحا مؤجلا قيد التحقق من خلال مقدّمات ومراحل تكون كفيلة بتحققه.

يشير الامام السجاد (عليه السلام) الى تلك المقدمات من خلال مقطع في الدعاء يقول فيه: "وطيب المخالقة والسبق إلى الفضيلة"، وهما مقدمتان عدّهما الامام السجاد (سلام الله عليه ) ضروريتان لتحقّق التقوى والصلاح في الإنسان.

يسلط المرجع الشيرازي، في معرض شرحه للدعاء في البداية، الضوء على المستوى البلاغي المبتكر لإضافة بعض الكلمات الى كلمات اخرى، وما يعنيه ذلك من رقي في اللغة والأسلوب، فلم يرد في قصائد شعراء العرب أو كلمات فصحائهم أنّهم أضافوا عبارة "الطيب" إلى "المخالقة" كما فعل الإمام سلام الله عليه في هذه الجملة. كما يشير الى ذلك المرجع الشيرازي، ويضيف: (هذا التعبير يعكس أدباً وبلاغةً رفيعتين للغاية).

يتوسع المرجع الشيرازي في شرحه لكلمة (الطيب) ويكتب:

(إنّ موارد الاستعمال لكلمة (الطيب)، سواء في القرآن الكريم أو في السُّنة المطهّرة المرويّة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أو في قصائد فطاحل الشعراء مثل البحتري وأبي تمام والمتنبّي ومن سبقهم كامرئ القيس وغيرهم، غالباً ما تكون في أحد موردين:

الأوّل: في الأمر الذاتي كما في المسك وسائر الأنواع الطبيعية حيث تسمّى طيباً.

الثاني: في الأمر الخارجي كما في الأطعمة الطيبة بسبب ممازجتها بما يجعلها كذلك).

الموردان للكلمة يستعملان كثيرا، الا ان وجه التميز البلاغي في ورودها ضمن الدعاء، جاء من خلال الجمع بين الطيب والمخالقة، كما يذهب الى ذلك المرجع الشيرازي، مفرقا لها عن (حسن المخالقة)، لأنّ الطلب في الدعاء سيكون متضمنا على رغبة الامام (عليه السلام) في أن يكرمه الله تعالى بحالة خارجية، قد يكون باطنها غير ظاهرها، فطيب المخالقة، هو تعزيز للطلب من الله سبحانه وتعالى ان يكون الامام (عليه السلام) بحالة داخلية يتكافأ فيها الباطن مع الظاهر.

والمخالقة هي التعامل الخلقي أي المعاشرة، وامثلة تجسيدها كثيرة، مثل إجابة الدعوة إلى الطعام وغيره من الأمور الحسنة، والتكلّم مع الناس والإصغاء إليهم، والتعامل بالحسنى معهم عموماً، فهي إذاً أمرٌ أكثر ما يرتبط بالحواسّ الخمس؛ العين والأنف واللسان والأذن والبشرة، ولذلك قيل في المخالقة: المخالطة والاستيناس.

اقتران (الطيب بالمخالقة) هو تطابق الفكر مع السلوك، وهو انتاج لصورة جديدة (تؤدّي إلى تصوّر الصدق في العلاقة بين الإنسان ومن حوله، وكأنّ هذه العلاقة طيّبة ذاتاً ومنذ البداية وأنّها من الصميم).

 فالكلمة الصادرة عبر طيب المخالقة توحي بأنّها قد خرجت من القلب، ولا يراد بها المجاملة وحسب، وتعرف على أنّها كلمة صدق وليست مراوغة يراد بها المكيدة والخداع، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع مصاديق المخالقة. فطيب المخالقة تعني إحراز الصدق وإبرازه في التعامل مع الناس.

ينبه المرجع الشيرازي الى قضية مهمة وهي اثر التطابق بين الفكر والسلوك على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، لان (المخالقة الحسنة إن لم تكن نابعة من داخل الإنسان، فإنّه سيبتلي بالتعرّض للضغوط النفسية الشديدة، جرّاء تصنّعه وتذبذبه، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلى عجزه في المحافظة على سلامته وصحّته، بينما إذا كان الفرد مؤمناً صادقاً بمخالقته ـ أي كان طيّب المخالقة ـ فإنّه سوف ينطلق الى آفاق الحياة بكلّ أمن وسلامة).

ومن مميزات طيب المخالقة أنّها تساعد الإنسان على مقاومة المشاكل، والصمود بوجه المشاكسين والمغالطين والمعاندين والوصول إلى برّ الأمان رغم كلّ الظروف.

وهو ما يعود بالنفع على الإنسان نفسه، لأنه اذا امتلك طيب المخالقة، من (لسان حسن، أو نظرة إيجابية، أو مصافحة حارّة، أو ظنّ حسن، أو عمل صالح فإنّ هذه وغيرها ستعود عليه بالنفع أوّلاً، وستشمل غيره أيضاً بمنافعها ومردوداتها الإيجابية).

التميز البلاغي الذي يشير اليه المرجع الشيرازي، في ارتباط الطيب بالمخالقة، يضم اليه الامام السجاد (عليه السلام) تميزا بلاغيا اخر وهو ارتباط السبق الى الفضيلة بهذا الطيب وهذه المخالقة، ومنها يمكن للإنسان ان (يتقدّم خطوة نحو الأمام ليشرع في إعمال الفضائل، ثمّ يسمو إلى مرحلة التسابق أو السبق فيها).

وسبب ذلك يعود بالأساس الى ان المرء (إذا كان طيّباً في داخله فإنّه لا يتوقع الفضل والإحسان من الآخرين بقدر ما يكون دَيدَنُه الإسراع في عمل الخير وإنجاز الصالحات. فيزور قبل أن يزار، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسب غيره، ويبدأ بالسلام قبل أن يضطرّ إلى ردّه، ويَحترم قبل أن يُحترم، إلى غير ذلك من شواهد الإسراع في الخيرات وطيب التعامل).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 11/آيار/2014 - 10/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م