مِنْ حَرْبِ الدِّعَايَاتِ إِلى حَرْبِ التَّصْرِيْحَاتْ

مُحَمَّد جَواد سُنبَه

 

في 30 نَيْسَانَ 2014، أَنهَى الشَّعبُ العِراقِيُّ، واجِبَهُ الوَطَنيّ عِندَمَا خَاضَ، أَوسَعَ مُمارَسَةٍ ديمُقراطيَّةٍ، في المنطِقَةِ العَربيَّة. لقَدّْ شَعَرَ العِراقيّونَ، الَّذينَ أَدلُوا بأَصْواتِهِمْ، في صَناديقِ الاقتِراعِ، بالفَخْرِ والزَّهْوِ، لأَنَّهُمْ أَحَسّوا بشَكْلٍ عَمليٍّ ومُباشِرِ، أَنَّهُمْ بَاتُوا أَصحَابَ إِرادَةٍ وَطنيَّةٍ. كما أَنَّهُمْ اصبحوا، يَمتلِكُونَ القُدرَةَ، على رَسْمِ مَعَالِمِ واقِعِهِمْ ومُسْتَقبَلِهِمْ السِّيَاسِيّ أَيضاً.

فانطَوَتْ صَفحَةُ يَوْمِ الانْتِخَابَاتِ ومَضَتْ، وبَدَأَتْ صَفْحَةٌ أُخرَى، فِي تَاريْخِ الشَّعبِ العِراقِيّ. وأَجِدُ مِنَ الضَّرورِيّ بمِكَانٍ، الإِشَارَةَ إِلى بَعضِ السَلبيَّاتِ، الّتي صَاحبَتْ فَترَةَ الانتِخابَاتِ، ومَا بَعدَها. لقَدّْ امتَازَتْ الدَّورَتانِ الانتِخابيَّتَانِ السَابقَتانِ، بالعَشْوائيَّةِ السِياسِيَّةِ، وعَدَمِ التَّخطيطِ، لبلُوغِ أَهدافٍ كانَ العِراقيُّونَ يرَجُونَها. وفيهمَا كانَ التركيْزُ، على الحِسّ الطَّائِفيّ، والمنَاطِقيّ، والحِزبيّ، أَكثرَ مِن التَركيزِ، على المواضِيعِ الّتي تَخُصُّ الصَّالحِ العَامّ.

هذه الملامحُ وغيرُها، كانَتْ تُشكّلُ غطاءً، يستَظلُّ به الكثيرُ من السِياسِيّينَ، لضَمانِ حُدودٍ مِن المشروعيَّةِ، تَمنحُهُم دَيمومَةَ البَقَاءِ للعمَلِ، فِي السَّاحَةِ السِّياسِيَّةِ العِراقِيَّة، بالرَّغْمِ مِن كُلِّ النَّكسَاتِ والاخفَاقَاتِ، الّتي لَحِقَتْ بمصَالِحِ الشَّعبِ العِراقِيّ. وأَقَلُّ ما تُوصَفُ بهِ تلكَ المِرحلَةِ بأَنَّها: (وجودُ نظَامٍ ديمُقراطيّ، لكنْ يفتَقِرُ إِلى وجُودِ طَاقَمِ عَمَلٍ، مُتجَانِسٍ يُؤمِنُ بالعَمَلِ وفْقَ الصِّيَغِ الدّيمُقراطيَّةِ).

وهذهِ الحَالَةُ، أَعطَتْ للكثيرِ مِنَ المتَقمِّصينَ، (لشخصيَّةِ) السِياسِيّ المُفَوَّضْ مِن قِبَلِ الشَّعبِ، فُرصَةً كبيرةً للبَقاءِ، على مَسرحِ الأَحدَاث، لعيْشَ هذا النَّفَرُ، على أَنِيْنِ مُعانَاةِ الشَّعب. تلكَ المَرحلَةُ انتَهَتْ، إِلى غَيّْرِ رَجعَة. والمرحَلَةُ القَادمَةُ، سَتكونُ أَكثرَ نُضْجَاً، إِذا مَا أَحسَنَ الشَّعبُ العِراقيّ، الاستِفادَةَ مِن أَخطَاءِ التَّجربَةِ السِياسِيَّةِ السَابقَة.

وإِذا لَمْ يكُنْ كُلُّ الشَّعبِ العِراقيّ، ناضِجَاً بالشَكلِ المَطلوبِ، فَمِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ قِسْماً مِنْهُ، قَدّْ وَعَى وأَدرَكَ بعُمْقٍ، خُطورَةَ تَركِ الأُمُورِ، ليَتَصرَّفَ بها هَذا الشَّخصُ، أَو ذَاك، أَو هذهِ الكُتلَةُ أَو تلك.

المرحلَةُ الجَديدَةُ، سَتكونُ بدايَةً لمرحَلَةٍ مُهمَّةٍ، فِي تَاريخِ العِرَاقِ المُعَاصِرِ. فَمِنَ الرَّاجِحِ أَنْ يَتشَكَّلَ فِيهَا، الوَعيُ الوَطَنيُّ الجَمَاهيريُّ النَاضِجُ. وسَتَظهَرُ فيهَا أَيْضَاً، قُوَّةُ الرأْي العَامِّ الشَّعبيّ، ويُنتَظَرُ أَنْ يَكونَ الشَّعبُ مُتَمَكِناً، مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ حُقُوقِهِ المشْرُوعَة.

ويجبُ أَنْ يَنتَبِهَ الجَميْعُ، أَنَّ بَعضَ الأَشخَاصِ، الّذينَ يَظهرونَ بصُوَرِ السِياسِيّْينَ الوَطنيّْينَ المُخلِصيْنَ للعِراقِ، والحَريصِيْنَ كُلَّ الحِرصِ، على مَصَالِحِ مُكوِّنَاتٍ مُعيَّنَةٍ، مِن مُكوِّنَاتِ الشَّعبِ العِراقي، هؤلاءِ هُمْ الّذينَ يُريْدُونَ إِبقَاءَ الأُمُورِ، على مَا هَيَ عليْه، ويُريْدُونَ أَنْ تَبْقَ الأُمُورُ، تَدوْرُ في فَلَكِ الخُصومَاتِ السِياسيَّةِ، لأَنَّهَا البيْئَةُ الّتي تُؤَمِّنُ استِمرَاريَّةَ، بقَاءِ وجُودِهِمْ مُتَطَفّلينَ، عَلى كاهِلِ العِراقِيّين.

لقَدّْ انْصَبَّتْ جُهودُ هَذا البَعضَ، أَثنَاءَ فَترَةِ الدِّعايَةِ الانتِخابيَّةِ، التَركيْزُ على شِعارَاتٍ طائفيَّةٍ مُستهلَكَةٍ، مَا عَادَ يُؤمِنُ بها، إِلاّ القَليلُ مِن مَحدُودِي الرُؤْيَة. لقَدّْ طُرِحَتْ خِطابَاتٌ وشِعاراتٌ، تَدعو إِلى مَا يَلي:-

(الدِّفَاعُ عَن الهويَّةِ، وعَن حُقوقِ أَهلِ سَاحاتِ العزَّةِ والكرامَةِ. إِنهَاءُ الدِّكتاتُوريَّةِ والتَّفَرُدِ بالسُلطَةِ. إِنهَاءُ حالَةِ تَسيّسِ القَضَاءِ، والإِفْراجِ عَن المعتَقليْنَ، فِي السُّجونِ السِّريَّةِ، والقَضَاءُ على الفَسَادِ والمُفسِديْن... الخ. ولعَلَّ أَغرَبَ شِعارٍ قَرأْتُهُ عَلى الإِطلاقِ، هو: (إِذا ذَلَّتْ العَرَبُ ذَلَّ الإِسلام)).

إِنَّ اخضَاعَ هذهِ الخِطابَاتُ والشِعاراتُ، الّتي أَثبَتَ الواقِعُ عَدَمَ صِّحَتِها، كمَا أَنَّهَا لا تَصمِدُ، أَمَامَ المَنهَجِ التَحليليّ، لعِلْمِ الإِعلامِ والاتِّصَالِ، عِندَ وَصفِهَا بأَنَّها دِعَايَةً انتِخَابيَّة.

فالدِّعَايَةُ الانتِخابيَّةُ لهَا ثَوابِتِهَا وأُصُوْلِهَا، وطُرُقِ إِيْصَالِهَا إِلى الآخَرينَ، الهَدَفُ مِنهَا التَأْثيْرِ على سُلوكِ الآخَرِ، عَنْ طَريْقِ تَغيّيرِ قَناعَاتِهِ، بموْضُوعٍ مُعيَّنٍ، وتَحويلِهَا للاقتِنَاعِ بمَوضُوعٍ آخَر، بحيّثُ لَمْ تكُنْ تَحصَلُ، القَناعَةُ الجَديدَةُ عِندَ الآخَر، بِدونِ تأثيرِ الدِّعَايَةِ، بشَرطِ أَنْ تكونَ الدِّعَايَةُ صادِقَةً، وبعيْدَةً عَنِ الخِداعِ، والكذَبِ والتَّزيّْيف.

لقَدّْ زَخُرَتْ فَترَةُ الدِّعايَةِ الانتِخابيَّةِ، بأَصواتٍ مُجَلْجِلَةٍ بالشِعاراتِ الخَاويَةِ. وهُناكَ فَرقٌ كبيرٌ بَيّْنَ اطلاقِ الشِعاراتِ، وبيّْنَ اطلاقِ المشَاريْعِ السِياسِيَّة. كُنْتُ أَتصوّرُ، أَنَّ بَعضَ العَاملينَ فِي المَجَالِ السِياسِيّ، قَدّ تَدَرَبوا عَمَليّاً، خَلالَ السِنينَ الماضِيَةِ، وإِنَّ التَجربَةَ قَدّْ أَنضَجَتْ عُقولَهُمْ، وأَصبَحَ بإِمكَانِهِمْ، طَرحُ مَشاريْعَ ناضِجَةً، تَقنَعُ النَّاخِب. إِنَّ هذا البَعضُ الّذي أَقصِدُهُ، يُشَكِّلُ كَمّاً ورَقمَاً، مِنْ بَيّْنِ المُرشَحيْنَ، على مُستوَى الكُتَلِ والأَشخَاص.

وبعدَ انتِهَاءِ عَمليَّةِ الاقتِراعِ، انتَقَلَتْ خِطابَاتُ هذا البَعضِ، مِنْ حَربِ الدِّعايَاتِ، التي تميَّزَتْ بالتَّشهيرِ والفَوضَويَّةِ، وعَدَمِ الدِّقَةِ فِي مُخَاطبَةِ الجَماهيرِ، إِلى صَفحَةِ حَربِ التَّصريْحات. فَمِنَ العَاصِمَةِ البريطانيَّةِ لَنْدَنْ، أَعلَنَ السَيّدُ أَيادُ علاّوي، شُكوكَهُ بالعَمليَّةِ الانتِخابيَّةِ مُسبَقاً. حتّى أَنَّهُ وَصَفَ عَمليَّةَ الاقتِراعِ، بأَنَّها بعيدَةٌ عَن المُمارسَاتِ الدّيمُقراطيَّةِ، مُعلِلاً ذلكَ بأَنَّ مِنَ المُمكِنِ، مَعرِفَةِ اسمِ النَّاخِبِ، عَنْ طَريقِ وَرقَةِ الاقتِراع.

ولا أَدري هَلّْ فِي بريطانيَا مَثلاً، يَبقى اسْمُ النَّاخِبِ مَجهولاً؟. ومَا المُشكِلَةُ، إِذا مَا عُرِفَ فيمَا بَعدُ، اسْمُ النَّاخِبِ أَولَمْ يُعرَفْ؟، فَهلّْ يُخشَى مِن عُقوبَةٍ جَزائيَّةٍ أَو مَعنويَّةٍ، سَتَلحَقُ بهِ مُستَقبَلاً؟. إِذنْ الموضوعُ برمَّتِهِ، يُقصَدُ منهُ، تَسقيْطُ الآخرينَ والتَّشكيكُ بكُلِّ شَيء.

ولَمْ يكُنْ أَقَلُّ سُوءاً، مِن هذهِ التَّصريحَاتِ، تلكَ النداءات والأَصواتِ العاليَةِ، الّتي تُرَوِّجُ لِشِعَاراتِ، الدِّفاعِ عَن الهوِيَّة. وكأَنَّ الشَّعبَ العِراقِيّ، يُقاتِلُ بَعضَهُ بعضَاً، ليَسْلُبَ كُلُّ مُكوِّنٍ هَويَّةَ المكوِّنِ الآخر. هذا المَنطِقُ المُختَلُّ، يَجبُ أَنْ يُحَدِّدَ، الشَّعبُ العِراقِيُّ، نهايَةً لَه. ولا أَحدٌ يمتلِكُ، إِرادَةَ تغيّيرِ هذهِ الخِطابَاتِ الموّتُورَةِ، وهذه الدَّعواتِ المَشْبوهَةِ، غيرَ الشَّعبِ العِراقيّ نَفْسِه. وبذلكَ سيَنتَقِلُ شَعبُنا، الّذي عَانى الكثيرَ مِن المتَاعِبِ، إِلى فَضاءِ الشَّفافيَّةِ، وإِمكانِيَّةِ مُسَاءَلَةِ أَيّ مَسْؤولٍ، عمَّا يَبدُرُ مِنه.

وبعكسِ ذلكَ، سيَفقُدُ الشَّعبُ العِراقيّ، كُلَّ مُؤَثِّراتِ التَّغييرِ والإِصلاحِ، لَيْسَ فِي مَجالِ العَملِ السِياسِيّ فحَسّبْ، وإِنَّمَا فِي جَميعِ مَفاصِلِ إِدارَةِ الدَّولَة. وسَتُعَادُ الكَرَّةُ عليّهِ، إِذا مَا قَبِلَ أَنْ يكونَ أَسيراً، تَحتَ سُحُبِ الظَلامِ، الّتي يَنْسُجُهَا بَعضُ السِياسِيّينَ الفَاشِليْنَ، (ومَا أَكثرُهُم)، لإِبقَاءِ الحَالِ على مَا هو عليّهِ.

إِنَّ التَّجربَةَ الدّيمُقراطيَّةَ، مَا هيَ إِلاّ مَجموعَةٌ مِن الأَنشِطَةِ التَّراكميَّةِ، الّتي يكتَسِبُها الفَردُ والمُجتمَعُ، جَرَّاءَ خَوضِهِمَا لتَجارِبَ تاريخيَّةٍ يتَعلّمانِ مِنهَا، الأُسُسَ الصَّحيحَةَ لرَسْمِ، مَعالِمَ جديدَةٍ للمُستَقبل.

لنَعِيَ جيّداً أَنَّ الشَّعبَ العِراقِيَّ، أَهْدَرَ سَنواتٍ طَويلَةٍ مِنْ تَاريخِهِ، وهو مُكبَلٌ بوعُودِ حُكومَةِ مُحاصَصَةِ المُكوِّنَاتِ، وحُكومَةِ الوحْدَةِ الوَطنِيَّةِ، وحُكومَةِ الشَّراكَةِ الوَطنيَّة. وبالنَّتيجَةِ، أَثبتَتّ كُلُّ هذهِ المشَاريعِ فَشلَها.

لقدّْ أَصبحَ لزامَاً على الشَّعبِ العِرَاقِيّ، وأَعنِي القِسْمَ الوَاعِيَ مِنهُ، أَنْ يُمسِكَ بدَفَاتِر المُذَكِّراتِ، ويُدَوِّنَ كلَّ وَعدٍ قَطَعَهُ على نَفسِهِ، هذا المُرشَّحُ، أَو ذاكَ الكيَان. كمَا يَسْتَعِدُّ لمُحاسَبَةِ المتَلكِئينَ، والمُفسِديْنَ والمُتقاعِسينَ، وغَيّرِ الكَفُوئِينَ، فِي العَمَلِ مُستَقبَلاً. حَتّى يَنتَقِلَ الشَّعبُ مِن حالَةِ الوعُودِ الفِضْفَاضَةِ، إِلى حالَةِ الإِلزامِ بالعَهْدِ والوَعدِ. فلَمْ يَبقَ أَمامَ الشَّعبِ العِراقِيّ، مَزيْداً مِنَ الوَقْتِ، ليَستَهلِكَهُ في انتِظارِ الوعُودِ، الّتي لا تُسْمِنُ ولا تُغْنِي مِن جُوْع.

ولا يَتَصَوَّرَنَّ أَحَدٌ، أَنَّ هذهِ المًهمَّةُ لا قِيمَةَ لَهَا؛ كَلاّ، إِنَّهَا المُراقَبَةُ الجَمَاهيريَّةُ، الّتي يَجبُ أَنْ تَكونَ رَدِيْفَةً للعَمَلِ السِياسِيّ والإِدَاريّ، حَتّى تَتُمَّ مُراقَبَةُ أَجهِزَةَ الدَّوْلَةِ، وِفْقَ آليَّاتِ الرِّقابَةِ الجَماعيَّةِ، إِضَافَةً إِلى آليَاتِ الرِّقَابَةِ الرَّسمِيَّةِ، الّتي تَقومُ بهَا أَجهِزَةُ الدَّوْلَة. واللهُ تَعَالى مِنْ وَراءِ القّصّد.

* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي

[email protected]

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتي

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 11/آيار/2014 - 10/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م