بعد ربع قرن من الهجرة اعتدت في كل زيارة الى العراق منذ عام 2003م
أن أتجول في العاصمة العراقية بغداد أتمتع بمناظرها وشوارعها وآثارها
واستأنس بحركة الناس ذات اليمين وذات اليسار، كل منشغل بالحياة
اليومية، وفي العام 2008م وبعد أن تراجعت بشكل كبير عملية الخطف والقتل
على الهوية الطائفية بفضل الاجراءات الحكومية، طفنا في شوارع بغداد
كعادتنا، وعند مرورنا بشارع "أربع شوارع" في منطقة اليرموك، استوقفتنا
مشاهد محلات بيع السمك المسقوف المشوي على الفحم، فأبدى زميلي انبهاره
بالمنظر وبعفوية طلب مني الدوران بناظري والتمتع بمشاهد شوي الأسماك في
الهواء الطلق، فابتسم السائق وعرف انني وصاحبي لسنا من أهل بغداد، فقال
وبنبرة الخارج للتو من معركة رابحة: أتدرون ماذا كانوا يشوون هنا بدلا
من الأسماك؟ تساءلنا بنبرة الجاهل بالأمر ونحن نعرف بما سيخبرنا به؟
أجاب: كانوا يشوون البشر المخطوفين بدلاً من الأسماك.
كان هذا الشارع الذي ننعم بالمرور به الآن من الشوارع الخطيرة
والمحظورة في الأعوام 2006- 2008م لكثرة عمليات الخطف والذبح والتنكيل
والمثلة وشوي الأجساد، وراح محدثنا ينقل صوراً من عمليات القتل والفتك
والتنكيل التي جرت في شوارع بغداد خلال هذه الفترة بدفع من جهات سياسية
ومؤسسات دينية عراقية وغير عراقية وجدت في الحرب على الهوية المذهبية
ضالتها للكسب الحرام على حساب النفس المحترمة، ومحاولاتها الحثيثة
لتغيير الهوية السياسية التي تشكلت بعد عام 2003م كأمر طبيعي لما
أفرزته صناديق الاقتراع، ولما هو عليه حقيقة الواقع الديموغرافي
والسكاني لبغداد نفسها بخاصة وعموم العراق بعامة.
وتزاحمت في الذهن صور قتل الإنسان والتنكيل به التي جرت في تلك
الفترة العصيبة من تاريخ العراق الحديث، وتداعت الذكريات المرّة وأنا
أتصفح كتيب "شريعة المُثلة" للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق
الكرباسي، الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 48
صفحة متضمنة لمقدمة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري مع 22
تعليقة على 75 مسألة فقهية تعرض فيها الفقيه الكرباسي إلى جريمة "المُثلة"
وأحكامها.
إنسانية الإنسان أولا
من الواضح ان التشريعات، إنما وضعت لتنظيم حياة الإنسان والإنسانية،
ولا يخلو مجتمع، صغر عدد أفراده أو كثر، من التشريعات إن كانت دينية أو
قانونية أو عرفية أو مجتمعية أو أسرية، وإذا كان الغموض يلف بعض
التشريعات وهي بحاجة الى تفسير وتوضيح من خبراء التشريع أو القانون،
فإن هناك من الأمور ما هي واضحة لا تتعلق بدين أو تشريع بعينه، يتفهما
الإنسان بانسانيته، وإن كانت هي الأخرى بحاجة الى تشريع، ولعلّ مسألة "المُثلة"
والتنكيل بالإنسان من الامور التي يستقبحها العقل الإنساني ويرفضها
رفضا قاطعاً، لتعارضها تماماً مع انسانية الإنسان إن كان موحدا أو غير
موحد.
فالمُثلة التي تعني كما يعرفها الفقيه الكرباسي: (التنكيل بجسم
الميت بقطع شيء منه أو ما شابه ذلك)، مرفوضة في ساحة الحرب، فمن باب
أولى مرفوضة في خارجها، وبتعبير الفقيه الغديري في المقدمة: (فإن
المُثلة من أسوأ الأعمال وأقبحها عند الشارع الحكيم والخالق الكريم،
فهي نوع من السبوعية، فعلى هذا لا يجوز للمُقاتل في المعركة أو خارجها
أن يمثّل بعدوِّه وإن كان كافراً، فهذا يدل على حرمة الإنسان في
الإسلام، هذا الدين الالهي العظيم لا يسمح بأيّة إهانة لأبناء البشر
مهما كان الشخص طالحا وعمل عملاً غير صالح، فاحترام الإنسان مُقدَّم
على كل شيء، وأقوم من كل ما دونه). فإنسانية الإنسان عند التشريعات
مأخوذة بنظر الاعتبار بشكل جدي لا لبس فيه، ولهذا كما يضيف الفقيه
الغديري: (والعقيدة لا تسوّغ ما ينافي أصل الإنسانية بأي حال من
الأحوال وبأية صورة من الصور حتى مع الكفار والمشركين وعبدة الأصنام
وأعداء الإسلام، فالتمثيل بما هو غير مسموح به لما فيه وَهنٌ لأصل
الإنسانية بغض النظر عن معتقد الشخص وأعماله)، من هنا فإن الفقيه
الكرباسي يؤكد أن حرُمة المُثلة لا تقتصر على المسلم، إذ: (لا فرق في
حُرمة المُثلة بين أن يكون المجني عليه مُشركاً أو كافراً أو غير ذلك).
بل ولتعزيز إنسانية الإنسانية، فإن المشرع الإسلامي شدّد على الحرمة
في ساحة الحرب نفسها، ولهذا فإن من تعاليم الإسلام ما ورد على لسان
النبي الأكرم محمد(ص) من وصاياه للجيش: "سيروا باسم الله وبالله وفي
سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، ولا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا
تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن
تضطروا إليها"، ومن وصاياه(ص) أيضا: "قاتلوا من كفر بالله ولا
تمثّلوا".
ولا تقتصر الرأفة التي بشّر بها الإسلام على ذات الإنسان نفسه، بل
تعداها الى الحيوان، وقد اشتهر عن النبي محمد(ص) قوله: "إياكم والمُثلة
ولو بالكلب العقور". وإذا كانت المُثلة محرّمة على الحيوان ومحرمة على
الإنسان الميت لحرمته حيّا وميتاً، فمن باب أولى لا يجوز التنكيل
والمُثلة به وهو حي، وفي ذلك يرى الفقيه الكرباسي أنه: (كما لا تجوز
المُثلة بالأموات، فإنه لا يجوز الموت صبراً للأحياء حتى وإن كان الحي
يستحق الموت)، بل حتى في مجال ذبح الذبيحة ينبغي استحضار الرحمة
والاحسان، فقد ورد عن نبي الإسلام(ص): "إن الله كتب الاحسان على كل شيء
.. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، وعن
حفيده الإمام محمد بن علي الباقر(ع): "فليحذر أحدكم من المُثلة وليحد
شفرته، ولا يعذب البهيمة".
والتنكيل أو المُثلة أو تقطيع أوصال الإنسان صابراً وهو حي يكشف عن
معدن الإنسان الجاني، وعن ماهيته وطينته، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إن
المُثلة إن تمّت فتدل على الحقد والكراهية التي يكنّها طرف لآخر)
والتاريخ القديم والوسيط والحديث يحتفظ في ذاكرته بصور بشعة عن المثلة
مارستها المجتمعات البشرية أفرادا ومجموعات بالضد من الآخر، ولأن الفعل
تنفر منه الفطرة الانسانية، فإن الجناة ينسبونه لهذا الدين تارة ولذاك
تارة أخرى تنصلاً من المسؤولية الذاتية، مما يخلق الانطباع لدى الآخر
بأن الدين يميل الى العنف ويشجع على التنكيل والتعذيب، في حين ان الدين
وبخاصة الاسلام يهدف في تشريعاته حياة الإنسان وخيرها في الدارين،
ولذلك اعتبر القرآن قتل الإنسان بغير وجه حق قتلاً للإنسانية وان
احياءها إحياء للبشرية، قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)
المائدة: 32.
بين القصاص والمُثلة
ربما تقفز الى الذهن شبهة المُثلة على تشريعات القصاص التي سنّها
الإسلام، حيث يقتضي في القصاص كما هو مسنون به العمل بالمثل، فمن قطع
اصبع انسان عامداً متعمدا فحكمه المثل، وكذا في بقية أجزاء البدن،
فحرمان الإنسان من جزء من أجزاء بدنه يقتضي العمل بالمثل مع الطرف
الجاني ضمن شروط خاصة مرجعها القانون وحاكم الشرع، إلا ان يعفو المجني
عليه أو ولي الدم في حال القتل، فكما تحرم التشريعات المُثلة بالانسان
حياً وميتاً تحكم عليه بالمثل إن أساء للآخر، فالقصاص ليس من المُثلة،
فكما ان إحياء النفس إحياء للإنسانية فان القصاص في الموارد التي يحكم
بها حاكم الشرع هي الاخرى حياة فيها ردع وتخويف عن الاتيان بمثلها،
وكما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي
الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 179.
وإذا كان القصاص يتحقق فيه العمل بالمثل، فإن أحراز المثلية لا تتحق
في المُثلة حتى وإن كان المعتدى عليه مسلماً، فالتنكيل تعبير آخر عن
انحراف في السلوك وانعدام للأخلاق، والانحراف لا يُقابل بانحراف مثله
حتى وإن بدا الأمر من باب "رد الحجر من حيث أتى"، وهذا ما يؤكد عليه
الفقيه الكرباسي بالقول: (والاحتجاج بالمعاملة بالمثل ليس دليلا شرعيا
ولا هي قاعدة اسلامية لتُعتمد في مثل هذه الموارد، وإن ذهب اليه بعض
الفقهاء من المذاهب الاسلامية)، ولذلك كان صبر النبي محمد(ص) على
التمثيل بعمِّه حمزة بن عبد المطلب في معركة أحد هو صبر مقدرة، ولم
يفعل بالمثل مع تمكنه من ذلك، من هنا فإن الفقيه الكرباسي يؤكد: (إذا
مثّل العدو بالمسلمين فلا يكون مسوغاً لأن يعاملوه بالمثل، بل على
المسلم أن لا يمثِّل بهم)، كما: (إذا حُملت رؤوس قتلى المسلمين إلى
أمرائهم، فلا يجوز للمسلمين المعاملة بالمثل في ذلك)، ولا يمكن
الاستدلال بالحلية على تصرفات بعض قادة المسلمين على فرض صحة أصل
الحدث، وهنا يؤكد الفقيه الكرباسي وهو الذي يحقق في النهضة الحسينية
عبر موسوعته الكبيرة (دائرة المعارف الحسينية) التي بلغ المطبوع
والمخطوط منها نحو 900 مجلد طُبع 86 مجلداً: (وأما ارسال المختار برأس
ابن زياد إلى الامام السجاد(ع) أو محمد بن الحنفية فعلى فرض ثبوته لا
يدل على صحّة عمله، بل الذي يُستشف أنّ حمل الرؤوس كانت عادة جاهلية
استهواها البعض ومارسها على خلاف ما أمر به الرسول-ص-).
بل من رحمة الإسلام أنه نهى عند قصاص الموت العمل بالمثل (فلو أنه
ثبت القصاص أو الحدّ على مجرم بالقتل فلا يجوز أن يُقتل تصبّراً، بل
الواجب أن يُقتل بما يريحه حتى وإن كان هو فعل ذلك)، فإن كان النهي
قائما عند قتل البهائم تصبّرا، فمن باب أولى نهيه عند قتل الانسان حتى
في مجال القصاص.
يا ترى في مقابل صور الرحمة الإلهية، والرفق بالحيوان والإنسان في
الروح والأبدان، بأية خانة يمكن وضع الصور المؤلمة والمقرفة والمقززة
للتنكيل والمُثلة بالآخر حيّا أو ميّتاً التي تجري اليوم في بعض
البلدان العربية والإسلامية، على خلفية الضد الديني والمذهبي تحت لافتة
نصرة الدين والمذهب!!
بالتأكيد .. ما حرّمته الفطرة الإنسانية، وما حرّمه الشرع الإسلامي،
لا يحلله أدعياء الدين والمتطفلون على الشرع، والمتفيقهون الذين يجدر
بهم أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. |