هذا الأسبوع، بشرت العناوين الرئيسية في مختلف أنحاء العالم بلحظة
فاصلة بالنسبة للاقتصاد العالمي. وعلى حد تعبير صحيفة فاينانشال تايمز
"تستعد الصين لتجاوز الولايات المتحدة باعتبارها القوة الاقتصادية
الرائدة في العالم هذا العام". وهو تطور مفزع ــ هذا إن لم يكن هذا
الزعم خاطئاً في الأساس. فالواقع أن الولايات المتحدة تظل صاحبة
الاقتصاد الوطني الأكبر على مستوى العالم بفارق كبير.
استندت القصة إلى تقرير صادر عن برنامج المقارنات الدولية التابع
للبنك الدولي في التاسع والعشرين من إبريل/نيسان. وكان عمل برنامج
المقارنات الدولية عظيم القيمة. وأنا أنتظر كل ست سنوات بفارغ الصبر
تقديراته الجديدة، وأستخدمها، بما في ذلك للاطلاع على موقف الصين.
تقارن بيانات برنامج المقارنات الدولية الناتج المحلي الإجمالي
باستخدام أسعار صرف تعادل القوة الشرائية بدلاً من أسعار السوق. وهذا
هو التصرف الواجب عندما ننظر إلى نصيب الفرد الحقيقي (المعدل وفقاً
للتضخم) في الدخل لقياس مستويات معيشة الناس. ولكنه التصرف الخاطئ
عندما ننظر إلى الدخل الوطني لقياس ثِقَل أي دولة في الاقتصاد العالمي.
وخلاصة القول هنا أنه باستخدام أي من المعيارين ــ نصيب الفرد في
الدخل (وفقاً لأسعار صرف تعادل القوة الشرائية) أو الناتج المحلي
الإجمالي الكلي (بأسعار السوق) ــ يظل اليوم الذي تتجاوز فيه الصين
الولايات المتحدة بعيداً في المستقبل. وهذا لا ينتقص بأي حال من سجل
النمو المبهر الذي حققته الصين، والذي يشكل بصموده عند مستوى 10%
تقريباً في المتوسط طيلة ثلاثة عقود من الزمان معجزة تاريخية بكل
المقاييس.
وفقاً لأسعار الصرف في السوق فإن الاقتصاد الأميركي لا يزال ضعف حجم
اقتصاد الصين تقريبا (أكبر بنسبة 83% على وجه الدقة). وإذا ظل معدل نمو
الاقتصاد الصيني السنوي أعلى بخمس نقاط مئوية من نظيره الأميركي، وبلا
تغيير كبير في سعر الصرف، فإنه سوف يستغرق 12 سنة أخرى للحاق بالاقتصاد
الأميركي من حيث الحجم الإجمالي. وإذا كان الفارق ثماني نقاط مئوية ــ
على سبيل المثال لأن الرنمينبي يرتفع بنسبة 3% سنوياً بالقيمة الحقيقية
ــ فإن الصين سوف تتجاوز الولايات المتحدة في غضون ثماني سنوات.
إن قضية تعادل القوة الشرائية في مقابل سعر الصرف في السوق مألوفة
لدى خبراء الاقتصاد الدولي. وهي قضية مزعجة ولكنها مشكلة فنية لا يمكن
تجنبها وهي تنشأ لأن ناتج الصين يُقاس بالرنمينبي، في حين يُقاس دخل
الولايات المتحدة بالدولار. فكيف إذن يمكن ترجمة الأرقام بحيث يمكن
مقارنتها؟
يتلخص الحل الواضح في استخدام سعر الصرف المعاصر ــ بمعني ضرب
الناتج المحلي الإجمالي الصيني الذي يُقاس بالرنمينبي في سعر صرف
الدولار في مقابل الرنمينبي، بحيث تصبح المقارنة بالدولار ممكنة. ولكن
هناك من يشير رغم هذا إلى أنك إذا كنت تريد قياس مستوى معيشة المواطنين
الصينيين فلابد أن تضع في الحسبان أن العديد من السلع والخدمات أرخص
هناك. والرنمينبي الذي يُنفَق في الصين قوته الشرائية أكبر من
الرنمينبي الذي يُنفَق في الخارج.
ولهذا السبب، فإذا كنت تريد مقارنة نصيب الفرد في الدخل بين مختلف
البلدان، فيتعين عليك أن تقيس القوة الشرائية المحلية، كما يفعل برنامج
المقارنات الدولية. ومقياس تعادل القوة الشرائية مفيد لأغراض عديدة،
مثل معرفة أي الحكومات نجحت في رفع مستويات معيشة مواطنيها.
وبالنظر إلى نصيب الفرد في الدخل، حتى بمقياس تعادل القوة الشرائية،
فإن الصين لا تزال دولة فقيرة نسبيا. ورغم أنها قطعت شوطاً طويلاً
للغاية في وقت قصير، فإن نصيب الفرد في دخلها الآن يعادل نفس نظيره في
ألبانيا تقريبا ــ أي أنها عند منتصف توزيع 199 دولة.
ولكن اقتصاد ألبانيا، على النقيض من الصين، لا يحتل العناوين
الرئيسية عادة. ولا يرجع هذا فقط إلى أن الصين تتمتع باقتصاد ديناميكي
نشيط، بل وأيضاً لأن عدد سكان الصين هو الأكبر على مستوى العالم. وبضرب
نصيب الفرد في هذا الدخل المتوسط في أكثر من 1.3 مليار "فرد" فإن
الناتج رقم بالغ الضخامة. والواقع أن التركيبة التي تجمع بين عدد سكان
كبير ودخل متوسط تعطي الصين قوة اقتصادية وأيضاً قوة سياسية.
وعلى نحو مماثل، فنحن نعتبر الولايات المتحدة القوة الأولى على
مستوى العالم ليس فقط لأنها غنية. فإذا كان نصيب الفرد في الدخل
المعيار الذي نحكم من خلاله، فإن موناكو وقطر ولوكسمبورج وبروناي
وليختنشتاين والكويت والنرويج وسنغافورة تأتي جميعها في الترتيب قبل
الولايات المتحدة. (وفي هذه المقارنة لا يهم كثيراً ما إذا كنا نستخدم
أسعار الصرف في السوق أو أسعار معادل القوة الشرائية). وإذا كان بوسعك
أن تشتري المواطنة فلعلك تفكر في إحدى هذه الدول.
ولكننا لا نعتبر موناكو وبروناي وليختنشتاين من بين "القوى
الاقتصادية الرائدة" في العالم لأنها صغيرة للغاية. وما يجعل الولايات
المتحدة الدولة صاحبة القوة الاقتصادية الرائدة على مستوى العالم هو
تلك التركيبة التي تجمع بين عدد السكان الكبير ونصيب الفرد المرتفع في
الدخل.
وهذه التركيبة تفسر الافتتان الواسع النطاق بمقارنة حجم اقتصاد
الصين أو قوته بنظيره في أميركا، وخاصة في ظل التساؤل حول ما إذا كان
المتحدي قد نجح في إزاحة حامل اللقب لفترة طويلة. ولكن أسعار صرف تعادل
القوة الشرائية ليست الأداة الأفضل لاستخدامها في الرد على هذا التساؤل.
والسبب هو أننا عندما نتحدث عن حجم أي اقتصاد أو قوته فإننا نتحدث
عن مجموعة واسعة من التساؤلات ــ ومجموعة واسعة من المحاورين. فكم يبلغ
حجم السوق الصينية من منظور الشركات المتعددة الجنسيات؟ ومن منظور
الأسواق المالية العالمية، هل يتحدى الرنمينبي الدولار باعتباره عملة
دولية؟ ومن منظور صندوق النقد الدولي وغيره من الهيئات المتعددة
الأطراف، كم من المال قد تساهم به الصين، وما مدى قوة التصويت التي
ينبغي لها أن تحصل عليها في المقابل؟ ومن منظور البلدان المتنازعة على
أراضي في بحر الصين الجنوبي، كم عدد السفن التي تستطيع مؤسستها
العسكرية أن تشتريها؟
وللإجابة على هذه التساؤلات، وأغلب الأسئلة الأخرى التي تدور حول
الثِقَل الاقتصادي، فإن المؤشر الذي ينبغي لنا أن نستخدمه هو الناتج
المحلي الإجمالي بأسعار الصرف في السوق، لأن ما نريد معرفته هو الكم
الذي يستطيع الرنمينبي شراؤه من السلع في الأسواق العالمية، وليس السلع
المحلية والخدمات التي يمكنه شراؤه داخل الصين. والجواب على هذا السؤال
هو أن الصين تستطيع أن تشتري أكثر من أي دولة أخرى في العالم ــ
باستثناء الولايات المتحدة.
* أستاذ في كلية كينيدي للعلوم الحكومية
بجامعة هارفارد
http://www.project-syndicate.org
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |