أخلاقيات التغيير.. لا بديل عن الثقة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: معظم مشاكلنا تعود الى فقدان الثقة، بالنفس اولا وبالآخرين ثانيا، لا تبدأ الثقة بالآخرين الا من خلال مرورها بالثقة بالنفس، وهي الاعتماد عليها في معناها اللغوي، وهي ايضا تعني اليقين، والتحرر من الشك والقلق والخوف، وضدها عدم الثِّقة وانعدامها، بما تعنيه من ارتياب وشكٌّ وسوء ظَنٍّ. لا تقتصر على الإنسان وداخل نفسه وحدها، بل تعمم الى الدائرة الاوسع وهي دائرة الاخرين في المجتمع.

في علم الاجتماع، والذي يدرس ظواهر المجتمع والعلاقات بين افراده، تكون الثقة رمز وقيمة اخلاقية وايفاء بالوعود، وهي علاقة اعتماد بين افراد المجتمع الواحد، عبر ثنائيات او اكثر ترتبط بعلاقات اجتماعية يفرضها محيطهم الاجتماعي.

اول شرط من شروط الثقة، وهي كما قلنا علاقة تبادلية، هو عدم الشك وظن السوء في النوايا او الاخلاق لدى المقابل، لأنها أي الثقة لا تكتسب تسميتها الا من خلال التجربة والممارسة، واي انطباع بالسوء مسبق عليها، يعد ناسفا لها ويؤسس لارتياب متبادل بين الاخرين، وما يستتبع ذلك من خوف هو اكبر نتائج عدم الثقة.

ونبقى قليلا مع علم الاجتماع وعلم النفس، حيث تدلنا ابحاثهما على ان درجة ثقة الشخص في الاخر تكون هي معيار ايمانه وتصديقه لأمانة الشخص الاخر. وبناء على معظم الابحاث الحديثة، فإن فشل وانهيار أي ثقة من الممكن ان يتم مسامحته بسهولة إذا كان الفشل ناتجا عن ضعف في القدرة وليس قلة في الامانة أو الصدق.

يعرض جيمس كوليمان لمصطلح الثقة في علم الاجتماع من خلال اربعة عوامل:

1- موضع الثقة يسمح للأفعال التي تكون غير ممكنة بالقيام ببعض الاشياء بناء على معلومات غير كاملة وغير مؤكدة.

2- الشخص الموثوق فيه هو شخص مستحق للثقة، لذا من الأفضل ان يثق فيه الشخص ولكن إذا كان الشخص غير موثوق فيه فالأفضل عدم الثقة فيه.

3- الثقة هي حركة تتضمن عمل تطوعي بين اثنين، فيجب على الأول ان يظهر ثقته لكى يثق فيه الاخر بالضرورة وإلا لبقي الاثنان فاقدين الثقة في بعضهما البعض.

4- توجد فترة زمنية بين تمديد الثقة ونتيجة تصرف الثقة.

في علم النفس تكتسب الثقة تكاملية كبيرة للتأثير الاجتماعي، فهي التي تسهل التأثير أو الاقناع لشخص بالائتمان تجاه شخص آخر. ان فكرة الثقة يتم تبنيها في شكل واسع على نطاق الاشخاص، المؤسسات (الوكالات الحكومية).

فهم (الامانة والاحسان والقدرة) هي اشياء ضرورية من اجل الثقة. في حالة انتهاك واضح لاحد الاشياء الثلاثة، يتم فقدان الثقة، ويصبح من الصعوبة بمكان اعادة اكتسابها مرة اخرى. من هنا يمكن اكتشاف التناظر والتماثل بين بناء وتدمير الثقة.

في مواصلته لشرح وتفسير دعاء مكارم الاخلاق، للامام السجاد (عليه السلام) يقتطف المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) مقطعا اخر من مقاطع الدعاء، الذي يتوجه به الى الله سبحانه وتعالى، قائلا: «ومن ظنّة أهل الصلاح الثقة». والظنة هي التهمة.

لا يمر المرجع الشيرازي على كلمة (الظنة او التهمة) مرورا سريعا، فهو يشرح ما تعنيه من خلال الوقوف عندها، وتفسير تناقضها بإبعاده الثلاثة، ففي الحالة الاولى (يتّهم الإنسانَ شخصٌ فاسق ويظنّ به سوءاً فهذه حالة عادية؛ لأنّ من طبيعة الفسّاق أن يظنّوا بالناس السوء). وفي الحالة الثانية (يكون المتّهِمون للإنسان والظانّون به سوءاً هم أُناس عاديون أي ليسوا فسّاقاً ولا على درجة مشهودة من الصلاح والفضل، وهذه الحالة قد تهون أيضاً).

والحالة الثالثة يدخل اليها المرجع الشيرازي عبر سؤال يطرحه بالشكل التالي: (ماذا لو أنّ التهمة وظنّة السوء صدرت تجاه الإنسان من أناس صالحين؟ أي شيمتهم الصلاح)، كما يرد في منطوق الدعاء، انه يختلف في هذه الحالة، كما يجيب السيد المرجع على تساؤله.

وهنا تكون الطامّة الكبرى؛ يستمر المرجع الشيرازي في توضيح المقصود بهذه الفقرة من الدعاء، وسبب تلك الطامة الكبرى (أنّ أهل الصلاح لا يتّهمون أحداً جزافاً، ولا يتسرّعون في إصدار الأحكام بلا رويّة، بل يحتاطون في أُمورهم كثيراً ويحملون أفعال الناس على محامل حسنة ما استطاعوا، لتقيّدهم بالشرع وأحكامه، وعملهم بما روي من أنّه احمل فعل أخيك على سبعين محملاً). وهو بمعنى اخر، ان اهل الصلاح هم اهل ثقة في اصدار الاحكام على الاخرين، فهم (لا يتّهمون أحداً جزافاً، كذلك فهم لا يثقون بأحد سراعاً، بل إنّهم يرجعون إلى مقاييسهم الشرعية والعرفية، ولهذا لو اتّهم أهل الصلاح أحداً ما، حصل الظنّ بأنّ هناك سبباً وراء ذلك).

لا يكتفي الامام السجاد (عليه السلام) في هذه الفقرة من الدعاء، وطلبه من الله سبحانه وتعالى، أن يدفع عنه تهمة من يُحسَب لتهمهم حساب ـ وهم الذين دأبوا على الصلاح حتّى عُرفوا بأهل الصلاح ـ بل نراه يطلب إبدال تلك الظنة والتهمة (إلى الثقة وحسن الظنّ).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 4/آيار/2014 - 3/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م