عندما شرع شقيقي المرحوم سمير الخزرجي مدرس اللغة العربية في
إعدادية كربلاء، ببناء داره في حي الأسرة التعليمية منتصف سبعينات
القرن العشرين، وجدها فرصة طيبة لي لتمضية عطلة المدارس الصيفية،
فأشركني مع العمال في البناء، وبالطبع كان حريصا على إشعاري بقيمة
العمل من خلال تزويدي بالأجرة اليومية كباقي العمال، ورغم متاعب العمل
وأنا في سن مبكرة من عمري في صيف العراق الحرور لكن الفرحة كانت تغمرني
من جانبين، الأول انني كباقي العمال استلم في نهاية ساعات العمل الأجر
من كد اليمين وعرق الجبين، والثاني إنني وبكل فخر أشاهد عمران البيت
الذي سأسكنه فيما بعد، وفي الحالتين هناك عمران معنوي وآخر مادي، فمن
جانب فرح يغمر النفس والروح للمجهود الشخصي الذي أقوم به، ومن جانب آخر
قيام لبنات البيت الواحدة فوق الأخرى مما يبعث على البهجة والسرور،
وإلى يومنا هذا فإن البيت الذي قام من الصفر على أكتاف شقيقي، الذي
يحالفه النصيب السكن فيه، آوى العشرات من أبناء أسرتنا الصغيرة وغيرهم
واستفادوا من ريعه وبيعه، وكلهم بلا استثناء مدينون بالشكر والتقدير
لما أغناهم الله من نعمه بفضل هذا البيت الذي تركه صاحبه ورحل الى
بارئه.
فما يعمّره الإنسان في دار الدنيا وهو محدود للغاية تظهره آثاره على
القريب والبعيد روحياً ومادياً، فما بالك بما يعمّره لدنياه وآخرته وهو
كثير، ففيه الخير العميم له ولمن يلوذ به في الدارين، وهذا ما تحققه
تعاليم السماء التي تدعو الإنسان على الدوام إلى الاستفادة من دار
الدنيا لإعمار الأرواح والأبدان، والعبادات واحدة من المعالم البارزة
في بناء النفس وإعمارها بما فيها خير الإنسان، فالله الذي خلق السماوات
والأرض ليس بحاجة الى عبادة العبد، فهو غني عن العالمين، وانما الانسان
هو المحتاج الى الله، والعبادة تمهد السبيل لترجمة حاجة الانسان الى
واقع في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن أية عبادة، لفظية كانت أو جسدية، هي
في واقعها إعمار للنفس والبدن وما يرشح عنهما، وشعيرة العُمرة، هي
واحدة من هذه العبادات، وهي اسم على مسمّى، يتابع الفقيه آية الله
الشيخ محمد صادق الكرباسي بيان أحكامها عبر كتيب "شريعة العُمرة"
الصادر حديثا (2014م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت من 56 صفحة
متضمنا 97 مسألة شرعية وتسع عشرة تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا
الغديري مع مقدمة للناشر وأخرى للمعلق وتمهيد للفقيه الكرباسي.
التسليم والإعمار
هل سأل أحدنا نفسه، لماذا يحرص الضابط في عرصات التدريب أو في غيرها
على أن يكون الجندي في أتم الجاهزية والأناقة من حيث اللباس والقيافة
والتدريب، وأن يطيع المراتب العليا فيما يأمرونه القيام به حتى وإن شعر
أن الواجب الذي يؤديه أقل من مستواه وشأنه الأسري أو المهني أو
التعليمي، أو ربما فوق طاقته البدنية؟
بكل بساطة وحسب ما يقول المثل الشائع ان: "الخدمة العسكرية تخلق
الرجال"، وإذا حاولنا تفصيل المجهود الذي يبذله الجندي والأوامر التي
ينفذها، ربما أمكننا وضعها في خانة العبودية لا الطاعة، ولكن اذا ما
أخذنا بنظر الاعتبار النتائج، فإن أي أوامر ينفذها الجندي ضمن المقاييس
العسكرية السليمة فهي تندرج ضمن عملية بناء لشخصيته من حيث الروح
والنفس والبدن، فالتسليم والطاعة للمراتب العليا ليست عبودية بمفهومها
السلبي بقدر ما هي التسليم الايجابي من أجل مصلحة عليا قد لا يدركها في
بادئ الأمر.
وهذا المثل صورة مصغرة لما عليه مفهوم الطاعة والتسليم لأوامر الله
الذي يدعونا لعبادته، فجلت قدرته يدعونا من اجل إعمار النفوس لا حاجة
له لعبادتنا، فسبحانه يريد خيرنا لنا ولغيرنا، وطاعة أوامره ونواهيه
والقيام بالعبادات المفروضة يحقق التسليم المطلوب، وهو الهدف الأقصى في
جميع الشرائع الإلهية والأحكام الدينية كما يشير الفقيه الغديري في
مقدمته، مضيفاً: (وإذا أسلم العبد لربّه تعالى وسلّم نفسه له عندئذ
يكون من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه) ومن هنا: (وبعد دقّة النظر الى
أعمال العمرة الواجبة والمندوبة تتضح حكمة تشريعها التي مؤدّاها
التسليم لرب العالمين، ويؤكد ذلك ما في تسمية هذا العمل المقدس من
الاشارة الى نتيجته وهي تعمير القلوب وترويح النفوس بذكر الله تعالى
والعهد به للتسليم)، والعُمرة في الأصل، كما ينوه الفقيه الكرباسي في
التمهيد: (مأخوذة من العُمران، وبما ان العبادات تعمّر القلوب بالإيمان،
فلذلك سُمّيت عُمرة ... فالعُمران المعنوي هو اعمار القلوب بالإيمان من
خلال العبادة لله التي هي عين الطاعة له، ومن أبرز مصاديقها مناسك الحج
ومناسك العُمرة)، ومن الطبيعي ان التسليم يقتضي الإخلاص، لأنه كما يشير
الفقيه الغديري: (هو المطلوب من جميع الأعمال العبادية وبدونه لا أثر
لأيّ عمل من الأعمال ولا قول من الأقوال).
ولا يخفى أن العُمرة بحد ذاتها واجبة وفرض كما هو الحج، وهي كما
يشير الفقيه الكرباسي: (فريضة إلهية، فلا يقوم أحدهما مكان الآخر، فمتى
ما استطاع أن يأتي بالعُمرة دون الحج وجب، لكن الذي استطاع أن يأتي
بالحج فلا يصح منه الا وأن يقرنُه بالعُمرة)، والعُمرة على قسمين: (العُمرة
المفردة لأنها تستقل بذاتها، وعُمرة التمتع، وهي التي تأتي مع الحج
والذي يُسمى بحج التمتّع)، فالعُمرة بشكل عام تعني قصد المكان العامر،
ومن حيث المناسك تبدأ بالإحرام والطواف والسعي وانتهاءً بالتقصير، ولكن
في: (العُمرة المفردة يجب فيها طواف النساء وركعتاه، بينما لا يصح في
عُمرة التمتع طواف النساء وركعتيه). كما لا يخفى ان الطواف وهو من
مقتضيات الحج والعمرة يؤديه الإنس والجن والملائكة، فالمخلوق الأول
والثاني والثالث كل يطوف حول الكعبة المشرفة، والثالث حول البيت
المعمور في السماء الرابعة، وسائر الملائكة تطوف حول الضُّراح في
السماء السابعة، والملائكة المقربون يطوفون حول العرش. كما لا يخفى
أيضا، كما يشير الفقيه الكرباسي ان: (عبادة العُمرة وكذلك الحج من اكثر
العبادات جهداً حيث فيها صرف للمال، واغتراب عن الوطن، وعمل فيه من
الجهد البدني سواء في الطواف او في السعي، بالاضافة الى ما فيه من
الامساك عن الملاذ، ففيه حكمة الصلاة وحكمة الصوم وحكمة الصدقة وحكمة
الجهاد بقسميه وأهمها الجهاد النفسي، مما جعل له المكانة الجليلة لدى
الله تعالى).
موارد الاستطاعة
من المفارقات أن سقف الأمراض يرتفع عند البعض وذلك عندما يحل شهر
رمضان المبارك، فيبرر افطاره او امتناعه عن الصوم بمجموعة أمراض أقلها
(قرحة المعدة)، وعندما يحل شهر الحج، فإن التبريرات تكثر، وبما ان
الإنسان ليس بحاجة لأن يبرر للآخرين افطاره او امتناعه عن الحج او
احتجابه عن موارد العبادة بشكل عام، فهو أمر شخصي بين العبد والمعبود،
لكن إبراز الأمر هو بحد ذاته يكشف رغبة كامنة للتبرير أو ما يُعبر عنه
بلغة الفقه "الاستطاعة" من عدمها.
وفي شعيرة الحج أو العمرة يتصدر عند المسلم مفهوم الاستطاعة كواقع
بكل مداليله ومصاديقه، لأن الحج أو العُمرة فيه سفر وانتقال وتغرب وصرف
أموال وترك للأهل والعمل والتجارة وانقطاع عن البلد الأم، فإن
الاستطاعة لا تتوقف على البدن او المال أو الأمن وأمثال ذلك، فكل واحدة
بذاتها معيقة لأداء فرض الحج او العمرة، فينبغي للحاج أو المعتمر توفير
كل مستلزمات الاستطاعة، بخاصة في الأزمان الماضية قبل أن تتوفر وسائل
النقل التي اختصرت المدة من ثلاثة أشهر -أكثر أو أقل- الى اسبوعين
وربما اسبوع واحد فقط، أو أقل من ذلك.
فالاستطاعة هي شرط تحقق العُمرة، أي كما يشير الفقيه الكرباسي: (شرط
الوجوب، وشرط الإجزاء، فإن غير المستطيع لا تجب عليه العُمرة)،
والاستطاعة تشمل: (القدرة المالية من السفر والنفقة، والقدرة الصحية،
والقدرة الأمنية، والقدرة القانونية، والقدرة الوقتية، والقدرة
النقلية)، والقدرة المالية لا تقتصر على تكاليف الحج أو العمرة: (فإذا
سافر الرجل وترك عمله، فان كان يملك مالاً يمكن أن تعيش به عائلته كان
مستطيعاً، إما إذا لم يتمكن وكان عليه أن يعمل حتى يؤمِّن نفقة عائلته
فلا استطاعة). ولا تقتصر القدرة الصحية على بدن المعتمر وصحته ابتداءً
فإذا: (كانت العمرة تؤدي به الى المرض الذي لا يمكن تحمّله لا تتحقق
الاستطاعة، ومثله تلوّث الهواء بشكل خطير)، ويضيف الفقيه الغديري
معلقاً: (وكذلك إذا كان سفره يوجب الزيادة في المرض اللاحق به حالياً
وعدم اطمئنانه بعلاجه في السفر). ولا تكفي قوة الحاج او المعتمر على
تحقق الاستطاعة، لأن القدرة الأمنية تعني: (سلامة الإنسان من التعرض
لعرضه أو نفسه أو ماله، فالذي يخاف اللص أو القَتَلة أو الاغتصاب أو ما
شابه ذلك فإنَّ الاستطاعة لا تتحقق، ومن القدرة الأمنية أيضا: الخوف من
الحكومات الظالمة أو هجوم الحيوانات المفترسة). وربما توفرت لدى الحاج
او المعتمر أوراق السفر من جواز وتصريح، ولكن قد يعيقه أمر آخر مثل:
(إذا كانت ورقة الصحة والتلقيح بهذه الدرجة من الأهمية، فالحصول عليها
يُعد جزءاً من الاستطاعة). والزمن يدخل عاملا في مفهوم الاستطاعة، فاذا
ضاق على المعتمر دخل في حيز عدم الاستطاعة. كما تدخل القدرة النقلية في
الاستطاعة: (إذا فُقدت الوسيلة لنقل المسافر إلى الديار المقدسة فإن
الاستطاعة لا تتحقق)، وشروط الاستطاعة بمجملها تشمل الحج والعمرة.
في الواقع، إن الحديث عن الحج أو العُمرة لا يمكن تذوق متعته وطعمه
إلا من حط رحاله في الديار المقدسة، ومن رزقه الله الاستطاعة فاز وظفر
ولا يناله إلا ذو حظ عظيم. |