أخلاقيات التغيير.. الممدوحون بذمهم

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يطرب الإنسان وينتشي لكلمات المديح، ويغضب لكلمات الذم، الطرب ثمالة يترنح الإنسان بتأثيرها، ويفقد توازنه واتزانه، حتى كأنه غير الذي نعرف، الغضب يستفز ويثير، وهو منبه يحرك ما سكن في دواخلنا.

تخضع علاقات التواصل بين افراد المجتمع الى عدد من الدوافع، انسانية أو اقتصادية أو اجتماعية، وكل فرد يطمح الى تحقيق انجاز من خلال تلك العلاقات، كأن ينجح في تعامله مع الاخرين او يحقق مصلحة اقتصادية مادية، او يكون محبوبا من قبل الاخرين في محيط بيئته، تتفاوت حظوظ الناس في تحقيق انجازاتهم، وتبعا لذلك تتفاوت درجات الرضى النفسي عن الانجاز لدى الفرد.

يميل الناس في علاقاتهم الى عدد من السلوكيات، هي في مجملها، وكما آلت اليه الكثير من مجتمعاتنا، سلوكيات سلبية لعل ابرزها غياب الصدق والحق والفضيلة.

تبرز تلك السلبيات على اكثر من صعيد، لعل ابرزها صعيد العمل في الجوانب المادية للإنسان، أو العمل في الجوانب المعنوية له، من عبادات أو اعمال خير وبر، وعادة ما تكون هذه الأعمال تحت انظار الجميع.

ينقسم الناس في التعبير عن أرائهم والتي تتعلق بإعمال غيرهم الى ثلاثة اقسام كما يعتقد الكاتب وهي:

الرأي المجامل

الرأي النفعي

الرأي الناقد

لغياب الصدق والحق والفضيلة، يطغى على أرائنا وتقييماتنا القسمان الاوليان، ولهذا يكثر المادحون عندنا، ويقل الناقدون.

يتصور الكثير من الممدوحين، ان عبارات المدح التي يتلقونها، هي ترسيخ للدافعية على الاعمال والانجاز، دون تفكر بإعمالهم ومراجعتها، وهو تصور محفوف بالمخاطر، على الاقل من ناحية الاكتفاء بالمدح وعدم الاستزادة من التطوير والقابليات، لتحقيق انجاز اكبر من الانجاز السابق الممدوح.

ويتصور الكثيرون ممن يتلقون رايا ناقدا لإعمالهم، انهم يتعرضون للذم، وكل ذم يجعلهم يتمسكون بقناعة الدافع للعمل والوقوف عنده من خلال ما يعتقدون انه انجاز متفوق. وهو تصور محفوف بالمخاطر ايضا، على الاقل من ناحية عدم رؤية القصور في عملهم، وبالتالي عدم المحاولة لتجاوزه في أعمال قادمة.

هذا التصور في الجانبين، احدى موروثاتنا المعوقة للتطور والتقدم، نجدها في هذا الكم الهائل من أدب وشعر المديح والهجاء، والذي عدت ابوابا رئيسية من ابواب الادب العربي، والحقت بنا كوارث ونوازل ما أمرّها خاصة ما يتعلق منها بمديح الحكام المستبدين وذم معارضيهم.

تلك الثنائية هي ما يركز عليها سماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في كتابه (العلم النافع سبيل النجاة) وتحت عنوان (حب الذم وكراهة المدح).

العنوان يشي بمفارقة حياتية وسلوكية، وهي بالتضاد مع ما درج عليه الناس من حب المدح وكراهة الذم.

لكن كل مفارقة سلوكية وحياتية، هي محاولة للعودة الى قواعد اخلاقية ابتعد الناس عنها، واتحدث هنا عن الصدق والحق والفضيلة والنزاهة وغيرها من اخلاقيات نبيلة.

يجعل المرجع الشيرازي، حديثا نبويا شريفا، مفتاحا لتلك المفارقة السلوكية، وهو قوله (صلى الله عليه واله وسلم): "ويل للصائم وويلٌ للقائم وويل لصاحب الصوف إلاّ من...". قيل: يا رسول الله إلاّ من؟ فقال: "إلاّ من تنـزّهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحبّ المذمّة".

هذا الحديث هو (من أسس تربية الإنسان لنفسه أن يكون بحيث لا يتأثّر ويتغيّر بمدح أو ذمّ فضلاً عن ظهور آثارهما على أعماله وأفعاله). كما يعبر المرجع الشيرازي.

عدم التأثر بثنائية المدح والذم، تتطلب القدرة على تنزيه النفس عن الدنيا وملذاتها، ليكتسب الانسان ملكة قادرة على فعل التنزه والقيام به.

هذه الملكة صعبة التحصيل، يعترف السيد المرجع الشيرازي بذلك، وهي اصعب من الحصول على ملكة العدالة، (لكنّ الآثار المترتّبة على هذه الملكة هي الأخرى أكثر من الآثار المترتّبة على ملكة العدالة).

يستمر السيد المرجع بتسليط الضوء على الحديث النبوي ودلالاته، فيقول: (ليس المقصود بغض المدحة لأنها مدحة، ولا حبّ المذمّة لأنّها مذمّة، بل لأنّ المدح والثناء يقلّلان من قيمة الإنسان غالباً إذا عمل لأجلهما؛ إمّا بخيلاء أو تفاخر أو تكبّر أو غير ذلك، بينما المذمّة على العكس؛ فهي مدعاة لأن تحثّ الإنسان على تصحيح أحواله وأفعاله).

وهو ما ينبغي للإنسان ان يفعله في تعامله مع تلك الثنائية، وخاصة فيما يترتب عليها (لأنّ الآثار المترتّبة عليه تضرّه، وكذا الحال بالنسبة لحبّ المذمّة، فهو يحبّها لا لكونها حسنة وإنّما لأنّه إذا ما ذُمّ فإنّه سيلتفت غالباً إلى عيوبه ويسعى لتصحيحها، فتكون نتيجة الذمّ لصالحه).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/نيسان/2014 - 20/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م