المؤسسات الخيرية وفنون العطاء

 

شبكة النبأ: مما يدعو الى الفخر والاعتزاز في مجتمعاتنا، وجود الحالة المؤسساتية لإعانة المحتاجين ومن يعانون مشاكل مالية في المعيشة والعلاج والدراسة والسكن وغيرها.. وبهمّة عالية من علماء دين مجاهدين، وشريحة واعية ومؤمنة، تم تشكيل العشرات بل المئات من المؤسسات والهيئات الخيرية في عديد البلاد الاسلامية، بل حتى في أوساط الجالية المسلمة في بلاد العالم المختلفة. وهي تأخذ على عاتقها مساعدة الشريحة الضعيفة مالياً، بسد حاجاتها الاساسية، او انقاذها من ازمات خانقة مثل العمليات الجراحية او تخليص سجين مدين.. وربما يكون الهدف الاساس – من جملة  اهداف- من وراء هذه المبادرات، الاسهام في ازالة حالة الفقر من ملامح المجتمع، ما أمكن.

وبالاستفادة من الظروف الموضوعية المساعدة على انتشار هكذا مؤسسات في بلاد مثل العراق وإيران ولبنان والخليج، فان سعة الطموح تكون كبيرة، نظراً للعدد غير القليل من الاسماء الموجودة والتي ربما يصعب احصاؤها، حيث باتت المبادرات الخيرية في هذا الطريق، تنطلق على يد افراد عاديين في المجتمع، كأن يكونوا طلبة حوزة علمية او جامعة او شباب في حي سكني، او موظفون في دائرة حكومية.. بمعنى ان وجود هذا الكم الهائل من المؤسسات الخيرية في بلادنا، يفترض تقليص عدد المحتاجين الى نسبة ضئيلة جداً.

الصناديق.. المشاركة العامة

 اذا كنا نبحث عن مصاديق عملية للتكافل الاجتماعي، فان فكرة "صناديق الصدقات"، تمثل أجملها وأكثرها تجسيداً، فظاهر الفكرة بسيط، ودلالته عميقة جداً.. فاليد التي تبحث عن محتاج لإعطائه مقداراً من المال، بإمكانها الوصول الى الهدف في أي مكان، بدءاً من البيت، ثم المحال التجارية والأسواق وحتى الشوارع والطرقات، بل في وسائل النقل ايضاً.

هذه الفكرة القديمة – الجديدة، شهدتها بلادنا منذ عقود من الزمن، وقد أثبتت نجاحها بفضل عوامل عدة أهمها؛ الإدارة والتخطيط وسلامة النية ونزاهة العاملين. وقد أكد ذلك سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "استمرارية المؤسسات الإسلامية" عندما عرّج على "الصناديق الخيرية" حيث يعدها من "المشاريع الإنمائية الهامة التي تؤدي إلى استمرارية المؤسسات ودعم النشاط الإسلامي وخدمة المجتمع وقضاء حوائج الناس.."، ويشير سماحته الى النجاح المنقطع النظير الذي حققته هذه التجربة في العراق والكويت، وذلك في عقد الستينات والسبعينات.

من أهم وابرز ثمار هذه الفكرة في الوقت الحاضر، وقوف جميع افراد المجتمع صفاً واحداً امام هذه الصناديق. فالشريحة محدودة الدخل لم تعد اليوم تنتظر من يجمع لها المعونات والتبرعات، إنما تجد نفسها مدعوة هي الاخرى للاسهام في إغناء هذه الصناديق بشيء من العطاء البسيط، الذي هو بالحقيقة مثل قطرات الماء، تتجمع لتتحول الى بحر عظيم، فاذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية أسهمت في تشديد وطأة الفقر والحرمان، بسبب غلاء المعيشة وارتفاع الاسعار بسبب ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، فانه بموازاة ذلك، علينا ان لا ننسى ارتفاع المداخيل في الوقت الحاضر، بفضل سياسة التشغيل الحكومي – التوظيف- في العراق، وسياسة الخصخصة والسوق المفتوحة في ايران وهكذا في سائر البلاد، الامر الذي يجعل الجميع امام مسؤولية واحدة لتضييق مساحة الفقر في المجتمع.

وهذا لا يتحقق إلا بتضافر جهود وكفاءات على صعيد الادارة في المؤسسات الراعية لهذا المشروع والتخطيط والاجراء الصحيحين لإيصال المعونات الى أصحابها الحقيقيين، ثم هنالك دور الاعلام والتثقيف في إنضاج فكرة العطاء والإحسان وتكريسها في النفوس، من خلال تبيين أهميتها ومصاديقها في الواقع الاجتماعي، بحيث يسود الشعور لدى الجميع – ومنهم المعوزين- ان المشاركة في إغناء الصناديق من شأنها إغناء الجميع.

التنمية بالتنافس

بما أن المشاريع الخيرية تُعد جزءاً من النشاط الاقتصادي ، فهو مشمولة بمعادلة التنمية والتطوير، فاذا كان لدينا مؤسسات خاصة لرعاية الأيتام والأرامل – مثلاً- وهي مشغولة فقط بتوصيل المعونات الشهرية، فان المطلوب تجاوز الحالة الروتينية للعمل لتحقيق هدفين أساس – من جملة أهداف- ، الأول: ضمان ديمومة العطاء لجميع المعوزين والمحتاجين دون استثناء، والهدف الاخر، وربما الأهم، توسيع رقعة العطاء، بل البحث عن آثار العوز والحرمان في المناطق النائية، حيث بعض العوائل المتعففة، التي تعاني شظف العيش وتكابد الظروف الصعبة لتوفير ما أمكن لضمان استمرار الطالب في مدرسته والطفل الصغير في غذائه وعلاجه وايضاً مستلزمات العيش البسيطة.

وهذا يتطلب التفكير في أمر التنمية والتطوير في عمل هذه المشاريع، لتكون اكثر عطاءً وفاعلية وديمومة، فما اكثر المشاريع التي بدأت بقوة واندفاع، لكن لم تلبث فترة إلا وتراجعت قوتها وعطاءها، بسبب فقدان الرؤية الشاملة والبعيدة المدى المستندة الى قواعد اقتصادية، ابرزها تفعيل جانب الاستثمار وتشغيل الاموال في مشاريع انتاجية، ربما تخدم الطبقة المحدودة الدخل نفسها. فالعمل في معمل خياطة – مثلاً- يُعد فرصة ذهبية للمرأة الارملة والمعيلة لاولادها، وهكذا الامثلة كثيرة في هذا المجال.

فعندما يتحقق النجاح عند هذه المؤسسة الخيرية – الاستثمارية، فانه دليل على امكانية تكرار التجربة في مؤسسات اخرى من خلال اعتماد مبدأ المنافسة الحرة والشريفة بين العاملين في هذه المؤسسات. وقد اشار سماحة الامام الشيرازي – قدس سره- الى هذه النقطة الدقيقة ايضاً، عندما أكد على "إن من أهم الأسباب التي تجعل المؤسسات والأنشطة الإسلامية تستمر في عملها وتنمو أكثر فأكثر؛ التنافس الحر فيما بينها في الحركة والنشاط والعمل..". والمنافسة ربما تأخذ مسارات عديدة في العمل الاستثماري الهادف، من قبيل نوعية الانتاج، او التنافس على استيعاب العدد الاكبر من الطاقات والقدرات الكامنة في الشريحة الفقيرة – إن صحّ التعبير- .

هذه الخطوات وغيرها، من شأنها ان يجعل العطاء اكثر انسيابيةً وسلاسة، بل اذا لا نجاري الحقيقة، من شأنها ان ترفع صفة "الاستعطاء" مما قد يحصل عليه أي شخص محتاج، لانه بالحقيقة هو جزء من الماكنة التي انتجت الاموال والمساعدات، وليس كما كان في السابق، ينتظر خلف الابواب الموصدة من يعطيه ويتصدق عليه، أو ربما يضطر لأن يطلب بشكل مباشر، كما هي الحالة الذميمة التي ما يزال المجتمع يعاني منها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/نيسان/2014 - 19/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م