اقتصاد العراق.. من الذهب الأسود الى الذهب الأخضر

 

شبكة النبأ: بسبب وفرة العائدات النفطية، ودخول العراق يومياً ملايين الدولارات مما يصدره من النفط، وإعطاء الاهمية الكبرى للعملية السياسية دون الاقتصادية، شهد القطاع الزراعي تراجعاً كبيراً، زاده بعداً عن الواقع الاقتصادي العراقي، رغم القدرات والفرص المتاحة لهذا القطاع لأن يكون – على الاقل- العامل المساعد الى جانب النفط في تأمين العملة الصعبة وتقوية الاقتصاد الوطني.

وعندما يأتي الحديث عن الزراعة في العراق، يكون لزاماً الاشارة السريعة الى ماضي هذا البلد الخصب والمعطاء، في هذا المجال، وأنه كان يحمل لقب "أرض السواد"، أو "وادي الرافدين"، حيث كانت دجلة والفرات تروي اراض شاسعة، فتثمر بالحبوب والتمور والفاكهة والخضار وحتى المحاصيل الصناعية مثل القطن وقصب السكر والبنجر. وقد شهد العراق ازدهاراً في قطاع الزراعة خلال العصور الماضية، رغم الوسائل البدائية وقلة الامكانات المادية، تكفي الروافد الصغيرة والجداول المتفرعة من الرافدين لتغني الحقول والبساتين بعنصر الحياة، وخير مثال على ذلك نهر "الحسينية"، الذي شقه احد الولاة العثمانيين لكربلاء المقدسة، وبواسطته توسعت المساحات الخضراء في المدينة وازدهرت فيها زراعة التمور والحمضيات. وبعد دخول المكننة على الآلات الزراعية، وإنشاء السدود على الانهار، وصل العراق شيئاً من ذلك التحديث، فشهد إنشاء سدود عديدة، وكانت الباكورة في "سدةّ الهندية" الذي يعد أعظم مشروع إروائي في العراق، تم تشييده عام 1914.

الحروب.. واحتراق الزراعة

تفيد المصادر أن العراق حقق اكتفاءً ذاتياً في مواد الخضار والفواكه والحليب، إذ لم تكن الكمية المستوردة من هذه المواد تشكل قبل عام 1980، سوى 6%من الطلب الداخلي، كما كان للأرز العراقي الفاخر (العنبر) والحبوبيات حضورها في الاسواق المحلية. ويستند هذا الانجاز على سلسلة خطوات تنموية اتخذت في العقود الماضية لدعم الزراعة، حيث تم توفير المياه والكهرباء والبذور المحسنة والمبيدات واللقاحات والعلف والسماد الكيمياوي بأنواعه ثم بناء عدة مصانع للسماد والكيمياوي في مناطق "عكاشات" و "ابو الخصيب" في البصرة، والموصل، واصبح العراق من اكبر الدول المصدرة للسماد الكيمياوي والصين كانت اكبر مستوردة له بعد البترول.

 إلا ان سياسات النظام البائد غير البناءة والباحثة عن المغامرة والتنافس المحموم على الهيمنة في المنطقة، زجّ بالبلاد في أتون معارك مدمرة وخاسرة، اضافة الى الخسائر البشرية الهائلة، فانها قصمت ظهر الفلاح والقطاع الزراعي برمته، فقد ارتفعت نسبة التبعية والحاجة الى وارادات المواد الغذائية بشكل جنوني، لاسيما خلال الحرب العراقية – الايرانية، حيث وظف النظام البائد كل عوائد النفط لتقوية جبهات القتال، بل انه اصيب بالعجز مع اوساط الثمانينات الامر الذي اضطره للاقتراض بعشرات المليارات من الدول الخليجية وغيرها، للحفاظ على القوة الشرائية للمواطن العراقي وتوفير القدر الافضل من المعيشة وحتى يكون مهيئاً نفسياً لمواصلة الحرب. فبدلا من تنشيط معامل الاسمدة والساحبات الزراعية، ودعم المحاصيل الزراعية، كان الهمّ الاكبر على تنشيط منشآت التصنيع العسكري واستيراد الافضل من المعدات العسكرية. وقد تكرس هذا الواقع المرير بعد غزو الكويت، وسقوط العراق تحت وطأة عقوبات اقتصادية ثقيلة، ربما لم يشهد لها مثيل، تركت أثرها، فيما تركته على القطاع الزراعي، حيث كانت اتفاقية "النفط مقابل الغذاء" خاصة بتأمين المواد الغذائية الاساسية والدواء فقط.

وكانت النتيجة المؤلمة أن تقلصت الاراضي المزروعة فعلًا، بشكل فضيع، فحسب الاحصائيات، آخر رقم وصله العراق بمساحته الزراعية هو (11.5) مليون هكتار أي26% من المساحة الكلية للعراق، بينما مساحة الاراضي المزروعة في الوقت الحاضر فلا تتجاوز (5.5) ملايين هكتار أي48% من المساحة الصالحة للزراعة. علماً أن العراق يحظى بوفرة مياه تقدر بحوالي ربع المياه المتاحة في العالم العربي، رغم المشاكل التي تثيرها تركيا حيث منابع دجلة والفرات.

تحديات من الماضي والحاضر

اذا طوى العراق صفحة الحروب منذ عشر سنوات، فانه يعاني آثارها الغائرة في الارض الخصبة، التي باتت اليوم مهددة بالتصحر والتحول الى اراض سكنية. وحسب خبراء فان هنالك تحديات عديدة أمام الزراعة لابد من ازالتها، إذا ما أريد حقاً النهوض بهذا القطاع وإعادة الحياة اليه: اهمها ارتفاع نسبة الملوحة في التربة بسبب قلة الامطار وفشل مشاريع الري، وحالياً تؤثر الملوحة على (40%) من الاراضي الزراعية، خصوصاً في وسط وجنوب العراق، الى جانب ذلك اتساع رقعة التصحر ما بين (40%) و (50%) مما كان يشكل اراضي زراعية في السبعينيات.

وحسب الخبراء فان التصحّر يعد من نتائج ترسب الاملاح في التربة بسبب استخدام المياه المالحة في ري الاراضي وسوء تصريف المياه مما جعلها اقل انتاجية. و "التملّح هو عملية تؤدي الى زيادة في الاملاح القابلة للذوبان في التربة". وقد بدأت مساحات كبيرة من الاراضي تتحول الى صحراء، مما ادى الى لجوء الكثير من المزارعين لمغادرة الارياف والتوجه الى المدن او المناطق القريبة منها.

والامر الآخر الذي يقضّ مضاجع الفلاحين والمزارعين الذي يتشبثون بما تبقى من اراضيهم الزراعية، هو قلة الدعم والاستثمار الحكومي والخاص في أمر الزراعة، من شأنه ان يخفف من وطأة الغلاء في توفير البذور والسماد الكيمياوي، الذي يعد عنصراً مهماً وحيوياً في زيادة الانتاج، وحسب المصادر فان المتوفر حالياً مشوب بالفساد او قلة الجودة، لاسيما المستورد منه، حتى وصل سعر الطن الواحد الى (500) الف دينار، وارتفاع سعره يزيد من كلفة انتاج الخضار. اما الزراعة المغطاة فانها تحتاج الى كميات كبيرة من السماد. يضاف اليها النايلون للزراعة المغطاة، المبيدات واللقاحات وحتى البذور للخضار، حيث نقل أحد المزارعين أن علبة البذور الواحدة لمادة الخيار، وصلت الى (250) ألف دينار.

ومن ابرز التحديات الاخرى للزراعة العراقية، هي الاستيراد، حيث يعد المارد الكبير الذي يقضي على عموم المحاصيل الزراعية الصغيرة امامه. فاذا جاءت الفاكهة والخضار وسائر المحاصيل الزراعية من الخارج وباسعار منخفضة، فان لن تدع مجالاً للمنتج المحلي الذي يأتي باسعار عالية نظراً لكلفة الانتاج والعمل، حتى بلغ الحال بالعراق ان يستورد التمور من الدول المجاورة، وهذه تعد سابقة خطيرة لم يشهدها العراق من قبل. حيث كان يفخر بامتلاكه (30) مليون نخلة، وهو الرقم الاعلى في دول المنطقة والعالم، إلا ان الرقم تراجع اليوم الى أقل من (13) مليون نخلة. وحسب مصادر وزارة الزراعة فان الاجراءات العملية لتطوير هذه المادة الحيوية، أسفرت حتى الآن عن رقم (400) ألف طن من التمور المستحصلة من بساتين النخيل في محافظات بابل وكربلاء المقدسة وديالى وبغداد والبصرة وغيرها من المناطق.

خطوات للمستقبل

بالرغم من الخطوات والاجراءات المتخذة من قبل الحكومة خلال السنوات الماضية لانقاذ الزراعة من الموت والدمار، إلا ان الاستحقاق الكبير في هذا الجانب ووجود الاراضي الواسعة المفترضة للزراعة، أو إعادة الزراعة الى تربتها، تستدعي خطوات اكثر جدية ذات بعد مستقبلي وتستند الى خطط موضوعية ومنهجية تاخذ جميع العوامل بنظر الاعتبار، ولعل الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال يكون مفيداً للحاضر والمستقبل.

ومن أهم الخطوات - حسب الخبراء:

1- تحديد سياسة خاصة للاسعار لكل مادة استهلاكية بما فيها الزراعية، وهذا يُدعى بـ "التثبيت". فالتثبيت يهدف الى تمكين جميع شرائح المجتمع من اقتناء المواد بأسعار مناسبة، هذه السياسة قد تؤدي الى اضعاف دخول المزارعين وتساهم في الهجرة الى المدن..لكنها سياسة مناسبة اذ ينبغي في الوقت الحاضر تثبيت الاسعار بما يناسب القوة الشرائية مع منح اعانات للمزارعين تهدف الى مواصلة وتطوير الانتاج.

بطبيعة الحال يستوجب التثبيت زيادة الانفاق العام لكن هذا الاستخدام للموارد المالية يعود بالنفع العام، كما لا تتخذ الاعانات بالضرورة شكلاً نقدياً بل قد يكون عينية، مثل بيع الاسمدة وتأجير الالات باسعار زهيدة وحماية المنتجات الزراعية من الامراض وتلقيح الحيوانات وتقديم الارشاد الفني مجاناً. تقود هذه الوسائل الى زيادة القيمة المضافة للانتاج المحلي الاجمالي، ولا يجوز التخلي عن سياسة التسعيرة الاجبارية والاعانات الا بعد تحسن مستوى الدخول الحقيقية، مع ذلك لا يجب على الدولة ان تتنازل عن التدخل لتوفير الظروف الملائمة للانتاج الزراعي.

2- تنمية الاستثمارات الزراعية

ينجم ضعف غلة الهكتار وضآلة الانتاج الزراعي، عن عدم الاعتماد على التقدم العلمي في الاساليب الزراعية وعن ندرة المكننة الحديثة وعدم توفير الرعاية البيطيرية والمبيدات، ولا يمكن مواجهة هذه المشاكل الا عن طريق تنمية الاستثمارات بثلاث وسائل في آن واحد:

الوسيلة الاولى: بناء خطة اقتصادية وبرامج مالية تضعها أطر علمية وفنية متخصصة ترصد الاموال لاصلاح الاراضي واعادة بناء البنية التحتية الزراعية.

الوسيلة الثانية: زيادة رأس مال المصرف الزراعي، فتدخل ضمن خطة اقتصادية شاملة ترمي فيما يتعلق بالتمويل الى رفع الامكانية المالية لجميع المصارف الحكومية ويتحقق بإعادة النظر في الميزانية العامة والميزانيات المستقلة.

الوسيلة الثالثة: تغيير قوانين الاستثمار بما ينسجم مع الاقتصاد العالمي فمن اللازم فسح المجال امام رؤوس الاموال الاجنبية للاستثمار في القطاع الزراعي، وفق اسس محددة تتناسب مع طبيعة هذا القطاع، وكذلك مع التقاليد القديمة التي تمنع تملك الاجنبي للاراضي الزراعية.

ان اهتمام الدولة في الوقت الحاضر بقطاع الزراعة، من شأنه ان ينهض باقتصاد البلد بشكل مذهل، نظراً للفرص المتاحة والقدرات الموجودة، حيث اليد العاملة، والمياه والتربة الخصبة، وهذا ما تحلم به كثير من دول العالم. ثم ان الانتعاش الاقتصادي يترك اثره المباشر على الوضع الاجتماعي ثم السياسي بشكل لا جدال فيه، حيث تنخفض البطالة وترتفع المداخيل وترتفع القدرة الشرائية ما من شأنه توفير أقصى درجات الامن والاستقرار، وهو بدوره يمكن الانسان العراقي من الابداع والتطوير والتطلع الى آفاق التقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/نيسان/2014 - 12/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م