أخلاقيات التغيير.. الطيران بأجنحة مخفوضة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كل فعل للطيران هو ارتياد لآفاق جديدة، أوسع وأرحب، وكل رغبة فيه تعني التطلع الى اكتشاف الجديد. ويرتبط الطيران عادة بالأجنحة التي تحقق فعله، وتضبط توازنه عند القيام به.

اختصت الطيور، وكل ذوات الاجنحة بالطيران، وفي بعض الأصناف التي لا تطير، وهو استثناء، بقيت لديها اجنحتها التي توازن حركتها وهي تنتقل من مكان الى اخر، والأجنحة في الطيور وغير ذلك من أدوات ووسائل للطيران، واقع مادي متحقق، وهو ينسحب على المجاز أيضا، لما لفعل الطيران وادواته وهي الاجنحة، من علاقة دالة وراسخة، مع أفعال وسلوك الانسان، ومع أدوات يستعملها في حياته.

من المعاني المادية للجناح، على سبيل المثال: (جَناحا الرَّحَى: شِقَّاها، وجناحا النصل: شَفْرتاه، وجناحا العسكر: جانباه، وجناحا الوادي: مَجْرَيانِ عن يمينه وعن شماله).

ومن دلالاته المعنوية في المعجم العربي على سبيل المثال: (فلان في جَناحِ فلانٍ: في كَنفه ورعايته، وهو على جَناحِ سَفَرٍ: إِذا كان يريده، وركب جَناحَيْ طائرٍ: فارق وطَنه، وركب جَناحَيْ نَعامةٍ: جَدَّ في الأمر واحتفَلَ به، وهو في جناحَيْ طائرٍ: إِذا كان قَلِقاً دَهِشاً، وخفضَ له جَناحَهُ: خضَعَ وذَلَّ وفي التنزيل العزيز: الإسراء آية 24 وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، وفلانٌ مَقْصُوصُ الجناحِ: إِذا كان عاجزاً، وجناح بعوضة: أمر تافه حقير، وخافض الجَناح: أبيّ، وقور، ساكن، ورجَع على جناح السُّرعة: عاد بسرعة فائقة، على عجل، مقصوص أو مهيض الجناح: ذليل، عاجز، قصير الباع).

حول تلك الدلالات المعنوية، يواصل المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) تحليقه في الافاق الرحبة لدعاء مكارم الاخلاق للامام السجاد بن الحسين (عليهما السلام) ويقدم لنا صورا ومعاني جديدة لما ارتاده من هذه الافاق الرحبة للدعاء في كتابه (حلية الصالحين).

يختار سماحته دلالتان للجناح هما: الميل والكنف، ويؤكد على الثانية، لما تعنيه من الصيانة والحفِظ، وضمَّ الشيء والاحاطة به. (فمن لا يملك مالاً فليس له كنف مال، والجاهل ليس له كنف علم).

ثم يتحدث عن دلالات أخرى للجناح لدى الانسان، فجناحه هي (قواه التي يستعين بها على الخوض في أمور الحياة).

وتتوزع تلك القوى الى أدوات ووسائل متعددة، مثل: (العلم والمال والعضلات والذكاء والعشيرة وغيرها)، وهي التي تجعل من الانسان قادرا على التحليق، بمعناه المجازي، في حياته وشؤون معاشه، ويتمثل من خلالها وعيه بالأشياء، وممارساته في البيع والشراء، والبطش والعفو، وتحصيل المعلومات والمعارف، والقدرة على الاستنتاج والتحليل لما تحصّل عليه..

التحليق بتلك الاجنحة المعنوية، هو نعمة من نعم الله على الانسان، وكل نعمة تستدعي ممن تتوفر فيه، أن يحسن التصرف بها. وحسن التصرف هو خفض الجناح الذي يحلق به.

خفض الجناح في الدعاء المذكور، كما يشير المرجع الشيرازي، هو من (حلية الصالحين وزينة المتّقين)، وهو تمكن الانسان (من الإمساك بجناحه والسيطرة عليه وخفضه عند مواضع رضاه سبحانه وتعالى).

من أوجه تلك السيطرة على الجناح وخفضه، الا يتكبر الانسان بعلم حصل عليه، وعليه منحه وتعليمه الى سواه، ولا (يبطر بماله وجاهه، ولا يطغى بقوّته البدنية، ولا يسيء استخدام ذكائه، ولا يتعصّب لعشيرته وذوي قرابته، كما لا يستميلهم في الباطل على خصمه).

خفض الجناح كما يقرأه السيد المرجع، يؤسس لوجوده في حياة الانسان بواسطة طريقين يسميهما النية والسجية، مستلهما حديثا للامام الباقر (عليه السلام) ترد فيه هاتين الكلمتين، وهو "إنّ الخُلق منحة يمنحها الله خلقه، فمنه سجيّة ومنه نيّة".

ويضيف الامام (عليه السلام) لمن سأله الفرق بين الاثنين بقوله: "صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره، وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً فهو أفضلهما".

في انتقالة أخرى حول مضامين خفض الجناح الواردة في الدعاء، يحدد المرجع الشيرازي، عددا من البنود أو المصاديق له في حياة الانسان، وهي أيضا اضاءة أخرى يستلهمها سماحته من ارتياد اخر ولكن هذه المرة في آفاق الامام الصادق (عليه السلام) في حديثه عن التواضع، وهو شق من خفض الجناح، هذه البنود هي:

1. "من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس" فلا يتوقّع الإنسان أن تكون له الصدارة دائماً في كلّ مجلس؛ وإن كان مستواه العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك أعلى مرتبة من غيره، بل يجلس بما إنتهى به ولا يتعقّب أسباب ذلك، بل يقبل به تواضعاً، فلا يعتبر نفسه أرفع مكاناً من الآخرين، إذ الناس مهما تفاوتت مستوياتهم المادّية، تبقى لهم كراماتهم ومشاعرهم الإنسانية، فلا موجب للمساس بها عبر التكبّر وتصعير الخدّ.

2. "وأن تسلّم على من تلقى" أي لا فرق بين من تعرفه ومن لا تعرفه، الكبير والصغير، العالم والجاهل، الغنيّ والفقير؛ لما لذلك من أثر في إبراز أجمل صور التواضع في الإنسان؛ لأنّ إبداء السلام تستلزم كبح الذات وتأديبها وإيقافها دون انطلاقها نحو الكبر وتصوّر الأفضليّة.

3. "وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً". والمقصود بالمراء الجدال غير المثمر الذي لا يراد عبره التوصل إلى النتيجة المطلوبة، بقدر ما يريد المرائي أن يظهر أنه الأفهم وأنّ رأيه هو الصحيح، فالذات ونصرتها هي الهدف. وهذا مذموم في الإسلام.

4. "وأن لا تحبّ أن تحمد على التقوى". ولعلّ هذه الخصلة هي الأصعب من بين الخصال، إذ الحبّ وعدمه لهما مقدّمات كثيرة، فإنّ الحبّ عاطفة، وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه بسهولة قياساً بإمكانية السيطرة على الجوارح والحواسّ. فعندما تكون مثلاً عالماً فقيهاً أو خطيباً بارعاً ولا تحبّ أن تُمدح على هذه المميزات، فذلك من الصعوبة بمكان، لذا ينبغي للإنسان أن يروّض نفسه على عدم حبّ هذا المديح، فلا يستاء إذا لم يؤدّ الناس له ما دأبوا عليه من مدحٍ لذلك.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/نيسان/2014 - 6/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م