الزعيم الأوحد ودكتاتورية حلال المشاكل

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: كلما تشتد أزمة بإنسان، اندفع للبحث عن الخلاص والمنقذ، فينمي في روحه الأمل ويغذي الطموح بالعمل، وقد قيل "الحاجة أم الاختراع". وبعد فترة عناء وجهد وكفاح، تكون هنالك فسحة للاستراحة واسترداد الانفاس لاستئناف جولة جديدة في الحياة بحثاً عن الافضل، وهذه تبدو مسألة طبيعية. لكن يظهر الشذوذ في هذه المسألة عندما تتجمع الازمات – بشكل أو بآخر- وتتضخم لتشكل سلسلة طويلة تمتد مع الزمن، تواكب حياة الفرد والمجتمع، بمعنى ان الناس يعيشون المشاكل والازمات باستمرار ولا مجال للراحة.

هنا تكون الحاجة دائماً الى شخصية قوية ذات امكانات واسعة تخلّص الناس من هذه المشكلة الاقتصادية او تلك الأزمة السياسية، وهذا ما يتقنه الحكام في بلادنا، لاسيما منذ ظهور فكرة النظام الجمهوري وتراجع دور الملكية في ادارة شؤون البلاد والعباد خلال القرن الماضي. فكانت المزايدة على آلام ومعاناة الناس، حيث أصبح رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة، بين الفلاحين والعمال والنساء والعلماء وجميع افراد المجتمع، لإعطاء صورة مغايرة لما كان عليه في العهد الملكي الذي كان يوصم بالتمييز والظلم والاستبداد.

ولعل العراق يكون الشاهد الأبرز في هذه الظاهرة، فالمشاكل المتراكمة على مختلف الأصعدة، من أزمة السكن وفرصة العمل، الى مشاكل الزراعة، والخدمات من تعليم وصحة وأمن ومواصلات، وحتى مسألة الحرية للرأي والمعتقد، وايضاً الحريات العامة وغيرها، خلقت شعوراً عميقاً لدى الناس بعدم قدرة أي جهة او جماعة في البلد حلها، سوى "الرجل القوي" أو "حلال المشاكل"، الممسك بمقاليد السلطة السياسية والمالية.

ويكفينا الاشارة الى عهد صدام السابق، وتحديداً في الايام الاولى لاستيلائه على السلطة عام 1979، لنلاحظ محاولات تكريس ثقافة "القائد حلال المشاكل"، من خلال الزيارات التفقدية التي قام بها للمناطق الريفية النائية ولقائه بمن مسّه الحرمان، وحتى زيارته لبعض البيوت ولقائه بافراد المجتمع، وكان البحث دائماً عن المشاكل والازمات، وهي موجودة بالاساس، فيوعز الى هذا وذاك لمتابعتها، وفي مرحلة لاحقة، ظهر "الحزب" ليكون الذراع المنفذ، فأي مشكلة لا تنحل إلا اذا وصلت الى "الحزب" فهي محلولة مهما كانت. وعندما اضطربت الامور وفقد الحزب بريقه التنظيمي بسبب ظروف الحرب، ظهر "القصر" ليكون هو الذراع الجديد، ثم ضاقت الدائرة مع الضيق الذي شهده صدام بفعل مغامراته الكارثية، لتكون العائلة والمقربون من يؤدي هذا الدور، وبلغ الحال تدهوراً أن يكون حامل "الأوسمة"، واحداً او اكثر، صاحب منزلة اجتماعية عظيمة، فـ"القانون الصدامي" يعطيه الحق أن يخلّص محكوماً بالاعدام من الموت، لمجرد أنه يحمل على صدره "وسام الشجاعة" من يد صدام!.

هذا باختصار أحد مفردات النهج الديكتاتوري الذي يفترض اننا استبدلناه بالنظام الديمقراطي، بتشكيل حكومة تولد من رحم البرلمان المنتخب مباشرة من افراد الشعب العراقي. والافتراض الثاني الذي يتبعه؛ وجود بدائل وخيارات جديدة لحل الازمات في البلد، مثل مؤسسات المجتمع المدني، او جماعات الضغط السياسي، او المؤسسات الثقافية والدينية وغيرها. وربما بتضافر هذه الجهود الجبارة والجبهة العريضة يكون لنا مشهد جديد خالٍ - الى حدٍ ما- من مشاكل في الأمن والخدمات والفقر والحقوق الاساسية للمواطن وحتى مسألة تطبيق القوانين بشكل عادل.

بيد أن معطيات الساحة لا تبشر بخير – للأسف- فهناك تشبث بثقافة "الزعيم حلال المشاكل" رغم ما تستعيده من ذكريات العهود البائدة، بل ومعرفة الغالبية من الناس انهم امام نموذج متكرر للحكم الفردي، لكن تضخم الازمات والمشاكل وتعقيدها يوماً بعد آخر، يجعلهم يغضّون الطرف عن آفاق المرحلة وأبعاد هذه الممارسة الخطيرة في الحكم، ليحصلوا على المتنفس من مستنقع المشاكل الذي يخوضون فيه.

وربما يتفق معظم المتابعين على أن اختزال السلطات والثروات والامكانات الهائلة في العراق في مكتب واحد أو شخص واحد، هو الذي يمنع ظهور خيارات الحل الاخرى. وهذه ظاهرة قديمة – جديدة في أنظمة الحكم الديكتاتورية التي ابتليت بها شعوبنا خلال القرن الماضي وما تزال. فالحاكم يجد قوته ومستقبله فيما يملك من زمام السلطة على الأمن والمخابرات والموارد المالية وعجلة الاقتصاد والقضاء، وحتى السيطرة على المشاعر والعقول. وبكلمة؛ يختزل الدولة في شخصه الواحد.

وهذا ما لا نلاحظه في الدول التي تطبق "الديمقراطية" بدرجات عالية، حيث المشاكل، الصغيرة منها والكبيرة، تحل من خلال النقابات والاتحادات والمؤسسات الثقافية، فهي تمارس ضغوطها المباشرة على الحكومة او البرلمان بالاضرابات والاعتصامات والتظاهرات الاحتجاجية وتحريك وسائل الاعلام، وبالنتيجة خلق رأي عام جارف من شأنه إجبار الحكومة مهما كانت قوية وذات وقع اقليمي ودولي، مثل الحكومة الامريكية او البريطانية، لأن تغير مواقفها وتجاري المطالب العامة، وهذا لن يتحقق اذا كان للرئيس يد طولى في آبار النفط أو في قرارات البرلمان أو أجهزة الامن والمخابرات.. نعم؛ له الحق القانوني والدستوري في الاشراف وإدارة بعض المؤسسات في حدود تحقيق المصلحة العامة والحفاظ على مصالح المواطنين وتأمين حقوقهم، وليس حقوقه الشخصية او مصالح حزبه وتياره السياسي.

لكن هل يعني هذا أن نلقي باللائمة كلها على الحاكم وحده..؟، فما دور النخبة في هذا المضمار التي افترضنا ان يكون لها دورها في خلق مصادر الحل لمشاكل المجتمع والدولة؟.

نعني بالنخبة؛ الشريحة الواسعة من المتعلمين والمثقفين والعلماء والمفكرين، ممن يعدون انفسهم حماة الوعي والثقافة الاصيلة. فالمجتمع يكون منيعاً من التأثر بالثقافة الديكتاتورية عندما لا يجد أمامه أدوات التأثير والضغط من جهة الحاكم، أياً كان.. فعندما تتحمل مسؤوليتها في تحديد مناطق نفوذه وتأثيره في القضاء والأمن ولقمة عيش الناس، وتشاركه بقوة في عملية صنع القرار، فان المجتمع بالتأكيد سيكون الداعم والقاعدة العريضة والقوية تنطلق منها لممارسة اعمالها في الاصلاح والتغيير وايضاً "حل المشاكل".

واذا يُقال: إن الشعب هو الذي يأتي بالحاكم القوي ويتسبب في تكريس وجوده، فان بامكانه ايضاً ان يدعم النخبة التي هي أقرب اليه من الحاكم الذي يولد عادة من رحم الحزب والايديولوجيا او ربما من معسكرات الجيش.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/آذار/2014 - 24/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م